سلوى عبد الرحمن
ستُّ سنوات من الحرب كافية لتقتل الحياة في داخلنا نحن السوريين، لنبدوا كأموات بهيئة أحياء، ليس فقط من قُتِلَ وشُرِّدَ أو اعتُقِلَ أو فقدَ جزءاً من جسده كان ضحية الحرب، بل هنالك عشرات الآلاف مثلي ممَّن مات بداخله. حاولت كثيرًا خلال هذه السنوات أن أبدو كشجرة الزيتون في بلدي، لكن في لحظة ما تصبح عبثاً تلك المحاولة، فأرمي بذكرياتي في قمامة النسيان، لأغرق بصور ومشاهد ما بين الماضي والحاضر.
لماذا كلُّ السوريين راحلون بعجلة؟! مهلاً أيُّها المتصارعون على أرضنا، فنساؤنا وأطفالنا لا قدرة لهم على تحمل المزيد من الآلام والقهر، فكيف لقلوبنا أن تقاوم كلَّ هذه الأحزان والمتاعب التي تطفو في خواطرنا الجريحة بسبب فراق أحبتنا واحدا تلو الآخر؟ فقد أتعبنا كثرة النزوح والتشرد في أصقاع الأرض.
كم هو مؤلم أن تغادر منزلاً كلَّف الكثير من المال والتعب والشقاء، اعتدتَ على العيش بين جدرانه سنين! لكنَّ فقد الأحبة وفلذات الأكباد أشد ألما، لم أكن أعلم أنَّ الموت سيفجعني أنا أيضا مثلهم، فلا تكاد توجد أسرة سورية إلا وفقدت عزيزا.
هنالك في أحياء حلب المدمرة تركت ذكرياتي، في منزل طالما كان شراؤه حلمًا، لم أعلم أنَّها المرة الأخيرة التي أرى فيها جدرانه المحملة بصور الأحبة واللوحات التي تشاجرت مع زوجي على مكان تعليقها، فلو علمت أنَّ الحرب ستغتال شريك حياتي لكنت حملت معي كلَّ أشيائه، حتى زجاجات عطره أو قطع من ملابسه، لكنَّني لم أعلم أنَّه
راحل هو الآخر.
في كلِّ زاوية من ذاك المنزل الذي لايزال عالقا في الذاكرة، حياةٌ غادرناها قسرًا وخوفًا من الموت القادم من السماء، كان أطفالي يتسابقون على فتح الباب مجرد سماعهم وقع أقدام والدهم على درج المنزل وصوت المفاتيح وخشخشة الأكياس وهو يحمل لهم ما يشتهون من الطعام والشراب.
تُرى كيف أصبحت الشجيرات التي زرعناها في حديقة منزلنا؟ لكل ولد شجيرة، وواحدة تتوسط الثلاثة، سألته حينها: وأين الخامسة؟ أجاب بأنَّها انكسرت بدون قصد، حينها صمتُّ، لكنَّني الآن أدركت لماذا بقي أربع، أعتقد أنَّ كلَّ الأشياء هناك باتت باهتة بلا روح، لأنَّ الحياة تستمر بقاطنيها.
أختزلُ كلَّ الروايات حينما أنظر إلى صورة زوجي الوحيدة التي ترافقني أينما ذهبت، عند القصف والنزوح خوفا من أن يغتاله الموت مرة أخرى، فنحن شعب يغتاله الموت مئات المرات، نموت قهراً ورعبًا وشوقًا عدا الموت قصفا وغرقًا وتعذيبًا، أحدِّثُ الصورة عن
ألم الرحيل، وعن تلك الصواريخ التي أرهقت الحياة في قلوبنا قبل أرواحنا، فشابت قبل أن تهرم، أشكو لها ضعفي وقلة حيلتي، وقد أحسدُ من مات قطعة واحدة ولم يتناثر جسده أشلاءً كما باقي الناس هنا.
فهل يا ترى من يسمعني؟
أمَّا عن قلبي الذي ملأته الآهات، يرقد هناك بين بقايا ركام ذاك المنزل، فأدقُّ تفاصيله لازالت شامخة في مخيلتي، وما يؤلمني أنَّ الحرب لازالت تغتال قلوب من بقي حيًا، فلا تنسوا يا أحبتي أن تتلمَّسوا جدرانا لكم قد تصبح يومًا ركامًا، وأن تحملوا في جَعبتكم صور أحبتكم وبعضا من ذكرياتكم في ألبوم عقولكم، فلا يمكن لأحد أن يسلب منكم القلوب أو العقول.