علاء عبد الرزاق المحمود |
إن المجتمعات بطبعها ساديّةٌ إلى حدّ الجنون، لكنها من نوع خاص مميز، فالساديّة لا تقتصر على عنف الأفراد الممارس على الضحايا، إنّما تتسع دائرتها لتشمل مجتمعاً بأكمله، فهي تُمارس ذلك منذ عشرات السنين، تختار لأفرادها، تُحدد اختصاصاتهم العلمية وزوجاتهم وأسماء أطفالهم ولون ملابسهم.. وكلّ شيء.
من أين جاءت هذه الساديّة؟ الجواب الأمثل والخيار الوحيد هو: العادات والتقاليد بالمجمل، سواء كانت جيدة أم سيئة، حميدة أم غير ذلك، مع أنني لا أنكر أننا مجتمع عربيٌّ يعود بأصالته إلى آلاف القرون، يتكئ إلى عكاز ماضيه، ويفتخر به، يتوارث الكرم والجود والشجاعة والنخوة وإغاثة الملهوف، هذا مما لا يختلف عليه اثنان، لكن نختلف حين تتدخل هذه المجتمعات في اختياراتنا الخاصة، وتمدّ عكازها وسط طريقنا لتبعدنا عنه إلى حيث تشاء، تسوقنا سوق الإبل.
من يملك الحق بالإجابة والاختيار عني؟ ماذا سأدرس؟ أو من سأتزوج؟ أقبل أم أرفض؟ لماذا إن كنت ابن طبيبٍ يجب أن أكون مثله وأسير على دربه؟ لماذا؟ الجواب بكلّ تأكيد: المجتمع يُريد ذلك، قد قرر عنك.
لماذا إن كانت أمي كاتبةً وأديبةً، يجب أن أعيش بين أروقة المكتبات؟ الجواب بكل بساطةٍ: المجتمع قد قرر عنك.
أصبحنا أحجاراً على رقعة الشطرنج، الملك يجلس مكانه ونحن الجنود نتحرك فداءً له، وطوعًا لرغباته، نموت ونحيا في سبيل الملك.
قال لي صديقي يوماً: “أدرس الطب لأنّ أمي أرادت ذلك، ولأني قريتي الصغيرة تحتاجني طبيباً، وتجاهل الجميع رغبتي بدراسة الهندسة.” هو الآن يعمل طبيباً في أحد المشافي العامة باختصاص الجراحة العامة، كما أرادت له أمه أيضاً.
نعود لنتساءل مرةً أخرى، الأربعة والستون مربعاً على رقعة الشطرنج، يوجد عدّة خياراتٍ، لماذا الملك وحده من يختار؟ ألا يجب أن يهمس بأذن الجنديّ: ما رأيك من هنا أم من هنا؟ أم أنّه ساديٌّ أيضاً؟
ماذا لو جلس الأب مع ابنه الذي أنهى مرحلته الثانوية، واكتشف رغباته، وسأله عن شغفه وحبّه، ووضع معه خريطة الطريق وسار بمحاذاته، يسنده ويدعمه، مادام أنه يسير في الاتجاه الصحيح، يحتار معه تارةً ويختار معه تارةً أخرى، ثم في نهاية المطاف، يقرران سويةً الأنسب والأفضل؟
لماذا يعشق المجتمع إنتاج نسخٍ متماثلةٍ؟ في وطني، الطب هو المهنة الأسمى والأرقى، على الطرف الآخر، دول العالم أجمعها، لا يوجد فيها اختصاص مقدسٌ ألبته، فالمعلم له مكانته الخاصة، والمهندس له الاحترام والشأن، مجتمعات أدركت أنّ التنوع هو السبيل الوحيد لتطورها، فهي تحتاج مربيَ الأجيال، وتحتاج عامل النظافة، وتحتاج المهندس، وتحتاج المبرمج، ترى في الاختلاف نجاةً وفي النسخ تخلفاً، إلى متى سيبقى مجتمعي يحبّ النسخ، ويعشق الساديّة؟!
الحلّ الأمثل والدواء الشافي لهذه العلّة وهذا الورم المستفحل في دماغ مجتمعنا، جرّاحٌ ماهرٌ ومعلّمٌ ناجحٌ، أحدهما يربي جيلاً منفتحاً يُحسن الاختيار والمواجهة، والثاني يستأصل الورم، وهذا لابد منه، حتى نحقق تطوّرنا على جميع الأصعدة، ونبلغ مصافي الأمم، لأن تطور الأمم وتحضرها، يتعلق بمقدار الحريّة المعطاة لأفرادها في الاختيارات الشخصيّة.
اليوم نقف على شفير الهاوية، شفير النسخ المتشابهة، ساديّة المجتمع باطلةٌ تسير بنا نحو الضلال، لن نصل إلى شيءٍ أبداً، لأننا لم نختر أبداً، لذلك لابد من وقفةٍ جريئةٍ لا تتعدى كونها مطالبةٌ بأبسط الحقوق الشخصيّة في سبيل تطور هذا المجتمع وازدهاره.
3 تعليقات
Osman Al Osman
وإلى متى ستبقى الساديّة سيدة علينا ؟؟!!
أبدعت دكتور 🌼❤
صهيب إنطكلي
صحيح…
وواقعي
شكرًا للكاتب
Hosam
معنونة بقوة
بالتوفيق د.محمود