نيرمين خليفة |
جثا على ركبتیه في حجرها والدموع لغة الأحزان الوحيدة القادرة على إنطاق الوجع، كان حلم اللقاء واستعادة اللحظات الحنونة قاب قوسین أو أدنى، كان رزازاً من سحابة القدسیة ما أمطر في تلك اللحظة من العمر العبثي الذي لا یُستشعر إلا نادراً، شهیدٌ یقسم فوق رأس شهید في بیت شهیدٍ ثالثٍ، هذا ما یحدث فقط في بلد الجراح والآلام الكريمة في سورية الثورة.
محمد خلیفة ذو الواحد والعشرین ربیعاً، أخضر العینین أحمر الوجنتین بشوش الطلة، المعروف عند الناس بالمجاهدِ الضحوك، أحد طلاب جامعة حلب التي ضجت بضحكاته فیما مضى، وشهدت باحاتها على مطاردات الأمن له في كل مظاهرة تندد بنظام البعث، مداخل البیوت في حلب عشقت ذكرى اختبائه فیها، وما أكثر الأحبة الذین یقصون ماضٍ عابق بالأخلاق الطیبة التي تُكمل خصال المهندس الحیي، كان وعداً لیس ثمة انفصال فیه ما قطعه على نفسه وأخته، وكانت متأكدة أنه لن یُخلفه فهو رجل الأوقات كلها، كانت عیونه تقسم لها فوق رأس الشهید لتقول: لقد وصلتُ متأخرا یا أختاه ولكني واﷲ سأكمل الطريق الذي تعاهدته مع زوجك، في عینیه تلك الشعلة التي رأتها في بریق عیني زوجها، شعلة الثورة والغیرة لرب ودین وأرض وعِرض، نعم نثور لرب ودین، والأرض هي من أقدس مقدساتنا؛ أرض الشام التي بارك فیها الرحمن وبسط أجنحة ملائكته علیها، مخدع أبطالنا وربیع شبابنا، بقایا أحلامنا الراقدة تحت الثرى، عنبر الذكریات والحب، ومرتع الصبا وشبابیك الحزن التي لن تغلق إلى أبد الآبدین.
كانت ثورة على كل الأصعدة، ثار فیها محمد على نفسه والقیود المجتمعیة وظلم النظام، لیلزم البندقیة والكفاح، لتضج به الأمكنة والأحوال، هو بطل الاقتحامات الأول مع الجیش الحر في الرقة، ویا لَوجع قلبي هناك! حیث سرق خفافیش اللیل وخطافو الورود المتفتحة ثورتنا ورقَّتنا وأهدوها لشیاطین الأرض تمحو طهر تمردنا وجهادنا الحق، كما يحاولون اليوم الإجهاز على ثورتنا بالضربة الأخيرة. هو في الصف الأول في صباح تحریر أریحا والعصبة الزرقاء فوق الجبین الواسع یعانقان الشمس، مسروق اللون غائب الذهن عائداً من معركة الفتح المبین التي قطع فیها الثوار أوتوستراد اللاذقية_ حلب على أرتال النظام، لیذهل محمد عن الدنیا وینسى هذا النصر المبین بسبب انقطاع أخبار ابن عمه وقائده المفقود في المعركة، خارت قواها وسقط أرضاً عندما نادت مئذنة المسجد معلنة ارتقاء شهید في معركة تحریر ریف جسر الشغور، فكان الصدیق الصدوق لمحمد حینها وأعطاه ﷲ عمراً آخر ملیئًا بالبطولات والأمجاد.
كیف ستنسى ارتعاش أصابعه البیضاء بعد عودته من نوبة رباط دامت عشرة أیام في جبل الأربعین أعلى قمة في المنطقة تحت أكوام الثلوج المكدسة؟! أصر حینها على الرباط بسبب احتدام الجبهات وقلة المقاتلین في حین كان عمله التقني ینادیه، لقد ترك حلمه بإكمال دراسته منذ أول صرخة حریة، كان من أبطال المظاهرات الأولى، وطالما كانت تكتشف مراوغته عن سر اختفاء جهازه المحمول أثناء مداهمة الأمن له أثناء دراسته الجامعیة.
انتظر مولوده الأول بفارغ الصبر، مع ثقته وهواجسها المریعة أنه لن یراه، ربما الحاسة السادسة أو ذاك النور المبهر الذي اعترى إطلالته، إنها كرامة الشهداء في أرض الیاسمین؛ ضیاء تخشع له الأبصار ویُرشد له ذو البصیرة.
لم یرَ الولد والده ولا المولود والده، لكنه حمل میراث أبٍ تنحني له الهام، یحق لولده أن یفخر به وتشرئب عنقه، فزملاء والده ممَّن انحازوا إلى الرمادیة المقیتة یرقصون الآن على أشلاء حلب في الجامعة التي سقط فیها محمد عدة مرات تحت هراوات شبیحة الأسد، هناك حیث عزف لحن الخلود من بندقیته وفي حنجرته قبلها، في القنادیل یزهر الیاسمین في كل الفصول من فرح اللقاء، أما هنا فقلبها أخضر وأیامها یابسة من فرط الوجد ولوعة الفراق..
هناك برَّ أهل الأیمان بأیمانهم وتسلموا أوسمة الشرف، وهنا حیث نحن سرق خفافیش اللیل أوسمة الأسى والصبر لیزیدوا الأوجاع ویقتلوا الذكرى ويغتالوا حتى حلم الثأر الذي ما فارقها.
هنا في الأرض محاریب تشهد صدق اللقاء، وشهامة الأصل، ونبل الغایة، أما في السماء فیا لجزیل العطاء وكریم الجزاء من الرب الجبار!
للمرة الأولى بعد أربعة أعوام أستجمع قواي لأكتب عنك ولك يا أخي، لم يتحمل ضمير الغائب ثقل وجعي فها أنا أنطق بلسان كل أم وأخت مكلومة ترى السكاكين المسمومة تمزق جسد ولدها وفارسها وحلم حياتها، ثورتنا حبيبتنا تتلقى الطعنات الأخيرة من أبنائها ونكاد نصبح على نعوة جسدها الهزيل لنُحرم من أضعف الإيمان وهو الحياة على بقايا ثأرك وبالقرب من مرقدك.
1 تعليق
مهجر
جميلة ومحفزة
رغم وجعها
اللهم انصرنا وتقبل الشهداء