الكتاب هو الجزء الثالث من سلسلة النهضة للدكتور جاسم سلطان، لا يضر قارئه أن يبدأ به تاركاً ما سبقه في السلسلة، لكنه يزداد فائدة لو قرأه في سياقه المتسلسل، إذ يتطرق الكاتب إلى كيفية فهم التاريخ فهماً صحيحاً محفزاً على التغيير، حيث إنَّ أسلوب عرض التاريخ يُخرِج القارئَ عن الأسئلة الاعتيادية في قراءة التاريخ فتنتقل الأسئلة من (متى وأين) إلى (كيف ولماذا وماذا).
الكِتاب يندرج في ثمانية فصول يربط بينهم بمقدمات وخواتم متماسكة فيكون الانتقال انسيابياً بينها.
مرَّ الكاتب بعدة فلسفات نفهم من خلالها التاريخ ومعرفة القوانين المحركة له وأسباب الصعود والهبوط للحضارات، وأهمية التفرقة بين التاريخ الصغير والتاريخ الكبير عند التعبير عن حالة أمة معينة.
بدأ الكاتب بشرح نظرية ابن خلدون في التاريخ التي تسمى (بقانون العصبية)
وضَّح من خلالها أهمية التكاتف المجتمعي في بناء الحضارات، وما الذي يؤثر على هذا التكاتف سلبا أو إيجابا.
ثم انتقل إلى فكرة (أرنولد توينبي) في بناء الحضارات، وتحدث عن الترابط بين نظرية ابن خلدون وتوينبي، حيث إنَّ توينبي وسَّع مفهوم ابن خلدون من مفهوم الدولة بشكلها المستقل إلى المفهوم العالمي للحضارات، وإنَّ بناء الحضارات حسب مفهوم توينبي قائم على مبدأ التحدي والاستجابة، فبحسب الاستجابة لتحدٍّ معين تتأثر عملية النهضة والحضارة.
ثم تحدث بشكل مبسط عن فلسفة (هيجل) والتفسير المثالي للتاريخ، ففكرة تطور الحضارات عند (هيجل) عبارة عن صراع أفكار، فمتى تولدت فكرة معينة يأتي نقيض هذه الفكرة معها، ثم يحدث التوالد لأفكار جديدة مطورة عمَّا سبق، وهكذا تستمر عملية التقدم من خلال التطوير المستمر للأفكار.
كما شرح نظرية (ماركس) في فهم التاريخ، حيث رأى (ماركس) أن صراع الطبقات والتحكم بوسائل الإنتاج من الأسباب المؤثرة في عجلة التاريخ، وطالب بالعودة إلى فكرة المجتمع البدائي، حيث لا طبقات ولا عبودية، حسب الفكرة الاشتراكية، وأكد على أن بعض التغيرات الاجتماعية والأخلاقية التي تطرأ على المجتمع ما هي إلا نتائج لتغيرات اقتصادية.
كما ذكر مقولته المشهورة (الدين أفيون الشعوب) حيث كان الدين المسيحي يوظف وقتها لتخدير الناس وتصبيرهم على ظلم الحكام بالوعود الأخروية.
ثم انتقل إلى فكرة (مالك بن نبي) عن الحضارة، يقول (مالك بن نبي) “إنَّ الحضارة إبداع، فلكل حضارة نمطها الخاص الذي لا ينفع معه تقليد أو استيراد كامل لحضارة أخرى، فلا بد من الاستقلالية الفكرية عند دراسة مشاكلنا الحضارية”
ويرى مالك أن جوهر الحضارات هو القيم الروحية، فمتى فقدت فهذا مؤشر لضعف الهمم الذي يؤدي إلى سقوط الحضارات
ووضح أهمية معرفة سنن التدافع والتداول عبر التاريخ، فلا يمكن لحضارة واحدة أن تدوم حسب هذين المبدأين.
وفي آخر الكتاب شرح فكرة (عماد الدين خليل) في استقرائه القرآني للقواعد الكبرى لقوانين الكون وتطور الأفراد والمجتمعات.
مجمل هذه القوانين تدور حول أهمية تغيير النفس أولا، ومعرفة سنن التدافع والتبادل وأهمية تكاتف أفراد المجتمع ونصرة بعضهم البعض للمطالبة بالحق ووقف الفساد وعمل الخير.
كنت أتوقع نقداً لكل النظريات التي أوردها، كنت أتوقع المزيد من العمق والأمثلة والتحليل الذي يبرز شخصية الكاتب نفسه ويبرز ربطه بين كل ما اقتبس، لكنه خيب أملي، حتى عندما أتى على ذكر فوكوياما وصمويل هانتجتون وهما الشهيران بكتبهما ذات الصيت والجدل، أتى على ذكرهما في الهامش مع ذكر كتاب كلٍّ منهما
لم يتطرق الكاتب إلى نقد معمَّق للنظريات المذكورة، ولم يجب عن الأسئلة الفلسفية الكبرى المثارة حول هذه النظريات، وبذلك تغيب شخصية الكاتب الفكرية وتطغى شخصيته النهضوية الحركية في دعوته القارئ للاستفادة من التاريخ فهماً ووعياً وتغييراً.
الكتاب ممتع ومفيد وسهل الاقتناء حتى لقارئ مبتدئ.
اقتباسات
– تحقيق النهضة والريادة الحضارية لا يعد مطلبًا إسلاميًا فقط، وإنما مطلبًا إنسانيًا.
– يجب أن يعزز كل تيار وحزب التربية الإبداعية، ويقدم المبدعين، وإلا تجمد الحزب عند المبدعين الأُوَل، وضمرت الأفكار، ومن ثم شاخ وهرم. كما يجب الاهتمام بإيجاد تلاقح أفكار بين القديم والحديث، وإلا حدث الشقاق والصراع الداخلي.