“بتعطيني ليرتين ولا بضربَك وبنزلك الدم من انفك هلأ”، تلك هي كلمات طفل سوري قالها لطفل أصغر منه عمراً بكثير في محطة الترام بولاية غازي عينتاب التركية.
القصة حصلت بعد انتهاء دوامي في عملي، حيث توجهت إلى محطة الترام للذهاب إلى منزلي، رأيت حينها طفلا سوريا يجلس على أحد الكراسي وينتظر الترام ليقله إلى مكان آخر، فجلست بقربه، وفجأة رمى إليَّ علبة محارم صغيرة، فسألته: هل هذه لي؟ أجابني: “أي بس حقا ليرة” ثم ضحكت وقلت له: أنت تاجر منذ صغرك، وصعدنا سوية إلى محطة الترام وجعلني أجلس على كرسي ووقف هو قربه.
وبعد ذلك دخل طفل سوري أكبر منه عمراً، ووقف أمامه كأنَّه بدأ يحاصره وقال له بلهجة عدوانية: “بتعطيني ليرتين ولا بضربك وبنزلك الدم من أنفك هلأ”، شعرت بالصدمة لاستغلال الكبير للفتى الصغير، فالأكبر هيئته لا تسر الناظرين، وقفت بقربه وقلت له بلكنة عدوانية أيضاً: “اتركوا بحالو هاد أخي وما دخلك فيه” حينها بدأ يتمتم “شو مفكر تيني خايف منك، خديه وبتشوفي بعدين”، أخذت الطفل الصغير وجعلته يجلس بقربي وبدأت بسؤاله عدة أسئلة.
سألته ما اسمك؟ ولماذا تعمل إلى هذا الوقت؟ وإلى أين متجه؟ وعدة أسئلة أخرى بعد أن أثارني الفضول لمعرفة قصته، نظر إليّ وكانت الدمعة تغرغر في عينيه، قال لي: “أنا اسمي عيسى خلف من طريق الباب بحلب، جيت لهون أنا وأمي وأخواتي الثلاثة بعد ما مات أبي بحلب، أمي بتخيط لبس بالبيت، وأخواتي صغار، وعندي أخ أكبر مني بسنة ببيع محارم متلي”، سألته لماذا متجه من الشارشي إلى منطقة الجامعة؟ (الشارشي هي منطقة السوق، وتبعد بالترام مسافة نصف ساعة)، قال لي: “أنا بالشارشي بشتغل للساعة 7 لأنه بعدا بصير في شباب بيجو بيضربوني، أو بتجي الشرطة بتسألني شو عم بعمل هون وأنا ما بعرف رد عليهن، وكمان ما بضل إلا الناس الوسخين بعد هاد الوقت، وبعدين بطلع على منطقة الجامعة لأنه هنيك بيسهروا الشباب السوريين، وبقدر بيع محارم أكتر بهالوقت هنيك.”
أصبت بالذهول بعد سماع ذلك الكلام من عيسى صاحب العشرة أعوام، لكن بعدها أردت معرفة ما يفعله، سألته قائلة: “عيسى شلون بتربح من هاد الشغل”، قال لي: “بشتري العشر علب محارم بليرة ونص، وبعدين بجي ببيع كل علبة بليرة، يعني هيك المربح معي، وبطلع ربحان منيح، وبقدر أمن لأمي مصاري مشان تقدر تطبخلنا تاني يوم”، لكن الذي يحرق قلبي وأنا أتكلم معه هو هيئة ثيابه في الجو البارد، مع العلم أنَّه يضع وشاحاً حول عنقه، لكنه يبدو عليه البرد والتعب، مع ذلك عرضت عليه أن أؤمن له عملاً بمعمل سوري أو معمل تركي وما شابه.
وحينها نظر إلي عيسى مع ابتسامة صفراء على شفتيه وقال لي: “أنا ما جيت لهون لذل حالي، أنا هون بروح بشتري المحارم من الدكانة بسعر الجملة، وببيعها بسعر أغلى بالمفرق وما بشحد من العالم، أنا بعرض عليهن المحارم بطريقتي، واللي مو لازمو لا يشتري مني، في كتير دكاكين وولاد ببيعوا المحارم ورزقي على الله”، حينها وكأن أحدهم صفعني على وجهي من رده الذي لم أكن أتوقعه على الإطلاق.
لكني لم أصمت وسألته: “طيب عيسى شو رأيك سجلك بمدرسة، وتشتغل هاد الشغل بعد الدوام” أجابني بسخرية تامة: “لك أنا عم أشتغل وعم طالع حق مصروف أمي وأخواتي وأخي إلي أكبر مني بخاف كتير يطلع ويمشي لحالو، لهيك أغلب الأوقات لما بشوفو بلاقيه مو بايع شيء ولا متحرك من مكانو، حتى أنا مالي خلق للدراسة، بكرا بس كبرت بدي أفتح معمل محارم وبيعن للولاد بسعر رخيص مشان لما يروحوا يبيعوا يربحوا اكتر بكتير، بقا ليش لروح أدرس وضيع وقتي بالكتب وآخر الشي ما أنجح وخلي أمي تعتاز الناس مشان ناكل نحن؟؟!!.”
وبعد ذلك الحديث أصريت على عيسى أن أراه ثانية، وألا يخاف من أحد مهما حصل، ونزلت من الترام عند المحطة القريبة من منزلي، لكن ذلك الحوار أصابني بالذهول والدهشة، فتًى عمره عشرة أعوام يقول ذلك الكلام مع أنَّه كان خائفاً من الفتى الأكبر منه الذي هدده، لكن بقلبه قوة شاب عمره فوق العشرين عاماً.
ذلك الحوار أكد لي أننا شعب “لا يقهر” وأنَّ صغارنا رجال (رغم ما فعله الفتى الأكبر مع عيسى) لكن مهما حصل سنبقى متمسكين بالحياة بقلوبنا وعيوننا وأيدينا رغم قسوتها، ومهما كانت أعمارنا ستبقى كرامتنا مرفوعة.
1 تعليق
احمد اسماعيل
شاب بعمر الطفولة …. الله يحميه
مدام عندو هدف ب الحياة و عم يشتغل عليه رح يوصلو يومآ ما …
أُحيي شجاعتو و عزة النفس يلي فيه
…. و اذا في مجال للمساعدة انا جاهز