د. وائل الشيخ أمين |
لطالما كان التلفزيون أيقونةً تستعمل عند الحديث عن غسيل الدماغ، حيث يكون هذا الجهاز الذي يدخل كل بيت بيد نخبة قليلة تملك المال ووسائل الإعلام، فتصيغ القيم والمفاهيم التي تريد ثم تقوم بتعميمها على الناس الذين يجلسون كل يوم متلقين لما يعرض عليهم متأثرين به.
لا شك أنك شاهدت رسوماً كاريكتورية كثيرة تعبر عن هذا، حيث يجلس المشاهد كمنوم مغناطيسي أمام التلفزيون.
ظهرت بعد ذلك وسائل التواصل الاجتماعي فاستبشر الجميع بها، حيث إن هذه الوسائل تتيح لكل إنسان أن يكون مؤثراً لا متأثراً فقط، لم تبقَ رسائل الاتصال في اتجاه واحد كما كانت أيام التلفزيون والراديو.
لكنني أعتقد أن هذا الكلام غير دقيق، حيث بدأنا نلحظ مؤخراً أن فضاء الإنترنت ليس عاماً للجميع كما يبدو للوهلة الأولى، بل بدأ يتجمع في يد قلة قليلة أصبحت هي الجهة المرسلة ومن سواها هم المتلقون، لا أمتلك إحصائيات دقيقة لكن أستطيع أن أقول: إن أكثر من 90% من فضاء وسائل التواصل الاجتماعي تسيطر عليه قلة قليلة جداً من المستخدمين.
أما البقية العظمى فهم مستقبلون متأثرون، وربما تكون مشاركاتهم التي يرونها تأثيراً في هذا العالم أقرب إلى التصفيق منها إلى المشاركة الحقيقية.
السؤال المهم الآن: ما هي معايير الانتشار في هذا الفضاء؟ وكيف يمكنك أن تدخل في نادي القلة المؤثرة؟
بسبب الوفرة الكبيرة التي حصلت في هذه الوسائل، أصبح المزاج الجماهيري هو الذي يحدد الكثير من المعايير، فالناس مثلاً لا يحبون الطرح العميق فكلما كان الطرح سطحياً كان احتمال انتشاره أعلى.
والناس يميلون إلى المرح فكلما كان المرسل خفيف الدم كان هذا أدعى للانتشار، وقد وصل هذا إلى درجة مبتذلة للأسف، بل أصبحت الموضوعات التراجيدية، وقضايا الأمة المأساوية تُعرض بأسلوب كوميدي ساخر، فالقيمة الأعلى أصبحت اليوم هي الانتشار!
وأصبح الإبهار البصري ضرورةً للانتشار، وهو ما لا يملكه إلا المحترفون وهذا ما جعل القنوات الفضائية تُسيطر على حيز كبير من فضاء الإنترنت.
فهذه القنوات تمتلك المال الذي يساعدها على أن يكون إنتاجها بأفضل المعايير، كما تمتلك الحرفية الإعلامية، والقدرة التسويقية، وبذلك بعد أن ظننا أن البساط سُحب من تحت القنوات الفضائية إلى عموم الناس، بدأت هذه القنوات تُعيد سيطرتها على الفضاء الإعلامي، ولك أن تستحضر الآن أشهر برامج اليوتيوب التي تتابعها التي تتبع غالباً لقنوات فضائية.
بل هنالك ظاهرة أصبحت ملحوظة مؤخراً، وهي أن هذه القنوات بدأ تستقطب الأسماء الشهيرة المستقلة فتوظفها عندها، ليكون هذا نصراً جديداً لها!
لكن المعيار الذي يخيفني أكثر من كل ما سبق هو: الخطاب منزوع الهوية.
عندما يكون الحرص على الانتشار الكبير، يصبح الكثير من المتحدثين حريصين على أن يكون خطابهم عاماً للجميع لا يحمل أي إيديولوجيا نهائياً، وهذا ما بدأ يزداد للأسف.
وصل هذا إلى أنك تُشاهد حلقات كاملة لبعض المتحدثين، فلا تعرف هل هم مسلمون أم مسيحيون أم غير ذلك، فلكي تحقق الانتشار يجب أن تتكلم بلغة عالمية.
بدأ البعض يعترض على أن يستشهد المتحدث بأدلة دينية حتى يكون خطابه للجميع! بل وصل الأمر بالبعض إلى أن يعترض على تحية (السلام عليكم) في بداية الحديث!
كل ما سبق من معايير يُحدد قيم المجتمع الجديد الذي تصنعه وسائل التواصل الاجتماعي، فإذا شئت أن تدخل نادي التأثير فعليك أن تتمثل هذه القيم.
ولا أشك أن الأثر هنا أكبر من أثر التلفزيون بكثير، فأن يُفرض عليك نوع من الخطاب تشاهده على التلفزيون أهون بكثير من أن تقوم أنت بكتابة هذا الخطاب وعرضه، لقد دخلت إلى النادي بنفسك ورضيت بالقيم الجديدة وخلعت هويتك بيدك.
ربما يراني البعض متشائماً وأن الأمر ليس بهذه الصورة، وأنا أوافق على أننا لم نصل إلى هذه المرحلة بعد، لكننا مسرعون باتجاهها.