عندما اشتراني صاحبي شعرت بسعادة كبيرة، ذلك أنني مكثتُ فترةً طويلةً من الزمن دون أن أتحرك من مكاني في محل كبير لبيع الأجهزة الكهربائية المنزلية.
كانت مدينة حلب ماتزال هادئةً وأهلها صامتون مع أن الثورة اندلعت ودماء بريئة كثيرة سالت، كان أهلها مازلوا يسكبون عصير البندورة في أوانٍ كبيرة ويزينون أسطحتهم باللون الأحمر الذي هو نفسه لون دم المقهورين!
وصلت إلى الركن المخصص لي في المطبخ وجلست بجوار الفرن الجديد، صاحب البيت كان عريسًا ومنزله صغير وجميل، فيه كل ما تحتاجه ربَّة المنزل من معدات كهربائية، مازلت أذكر جيدًا أول مرة بدأت المياه تتسرب إليَّ مع مسحوق الغسيل ذي الرائحة المنعشة وبدأت أدور بهدوء في الدقائق الأولى من عملي، مرَّت ساعة كاملة وحان وقت الدوران السريع لتجفيف الغسيل المبلل، بدأت أدور بسرعة وقوة، ومع دوراني كانت المدفعية الأسدية تسقط قذائفها قريبًا من مكاني.
توقفتُ عن الدوران، وانتهيت من الغسيل مع صوت إغلاق الباب بقوة! لقد ترك العريس وزوجته بيتهم في حي سيف الدولة وهربَا من جحيم اشتعلت نيرانه، ولم أكن أعلم يومها أن رحلة طويلة تنتظرني وأن أيدٍ كثيرة ستحملني وتنقلني من مكان إلى آخر.
صار البيت موحشًا، ومرَّ ما يقارب الشهر والقذائف لم تتوقف وكذلك الطائرات الحربية، اخترقت شظايا كثيرة المطبخ لكني لم أصب بأذى، مايزال الغسيل في داخلي وقد اختنق كما اختنق أصحابه وتغيرت رائحته لتغدو مزعجة، أخيرًا فتح أحدهم بابي بقسوة، رمى الغسيل جانبًا ونادى صديقه، فحملاني بين أيديهما باهتمام، نظرت إليهما بامتنان، لكن سرعان ما أصابتني دهشة عظيمة! هما جنديان من الجيش العربي السوري يمارسان واجبهما الوطني المسمى (بالتعفيش) أصبت بإغماء طويل، وحين صحوت وجدت نفسي في مكان لا أعرف أصحابه، كانوا كثيري العدد اجتمعوا في بيت كبير ليس فيه سوى الجدران والأبواب والنوافذ المحطمة!
من حلب إلى حمص لا أعرف كيف وصلت، لكنني أذكر جيدًا أن الطريق كان طويلاً وصوت الرصاص كان يعلو على كل الأصوات الأخرى.
شعرت بارتياح حين عادت إليَّ دورة الحياة، الماء الدافئ يداعب مسحوق الغسيل، وثياب ملطخة بالدماء تدور في داخلي، جرحى كثيرون في حي الوعر غسلت ثيابهم قبل أن يرحلوا من بيوتهم مكرهين بينما أعود أنا مرة أخرى إلى أيدي جنود النظام يحملوني من بيت منكوب ويبيعوني في سوق مكروب، وأمضي من بيت إلى بيت ومن مدينه إلى مدينة، حالي كحال أهل سورية المهجرين وها أنا ذا قد وصلت (سوق السنة) قريبًا من مدينة حماة، هل تعرفون حكاية (سوق السنة)؟!
كل ما كان يسرقه جنود الأسد من أهل السنة كان يباع هناك، وهذه المرة اشتراني رجل حلبي وعاد بي مرة أخرى إلى حي (بستان القصر) مرت شهور لا أدري كم كان عددها، تحاصرت مدينه حلب الشرقية وسقطت أحياؤها تباعًا، وحين عاد حي (بستان القصر) إلى قوات النظام عاد الجنود يحملوني بكل عطف وحنان ويبيعوني من جديد.
صباح هذا اليوم وجدت نفسي في بيت من بيوت مخيم اليرموك، كان يتقاتل عليَّ من اشتراني ومن يريد سرقتي (تعفيشي) وأخيرًا استغنى عني صاحبي لصالح المُعفِّش لأن مصابه كان كبيرًا جراء ما أصاب حيِّه وبيته الذي يسكنه ولا أدري أين أكون بعد هذه الجولة التعفيشية.
شيء واحد أريدكم أن تعرفوه قبل أن أفنى وأتحول إلى خردة مرمية على جانب الطريق، غسلت الكثير من الملابس الملطخة بالدماء، منها من كان معطرًا كأنفاس صاحبه الذي لا يسرق ولا يعفش وينشد القيم وبناء الوطن، ومنها من كان نتنًا خلاف الأول، فلا أريد أن يتندس حوض غسيلي بملابس المعفشين وبمن يشجع على قتل السوريين، لأن هؤلاء هان عليهم قتل الأبرياء وهدم مدنهم فوق رؤوسهم فهان عليهم سرقة كل ما يملكون.