تستمر رحى الموت في غوطة الشام بالدوران، ويستمر معها طحن المزيد من الأرواح مقتربة من النهاية، للتحضير والانتقال إلى مكان آخر، لاسيما عندما يكون من يديرها عارفاً بحجرها، وذا سمع طروب بأصوات المعذبين وأناتهم التي علت صوت جعجعة الرحى، إنها نفسها التي دارت وطحنت في حلب من قبل، إذ لم يمضِ الكثير على السيناريو الذي مرَّ بها والذي تعيشه الغوطة اليوم في حلقاته الأخيرة التي يتابعها المجتمع الدولي بصمت يفسَّر بالقبول، وقرارات آخرها عدم الالتزام بتطبيق القرار 2401، وزيادة الإجرام لحسم المعركة حسب اعتقاده.
تفسير الصورة السابقة يعود إلى أمر واقع يُعاش تقريبا منذ أربع سنوات، عندما سُلب القرار وبُدِّلت معركة الحرية بأساليب عدة منها ما يعود إلى الثورة نفسها، ومنها ما يعود إلى ما يحاك لها.
فأما ما يعود إلى الثورة فهو التشرذم الفصائلي الثوري على اختلاف مشاربه لأسباب لا يتسع المقام لشرحها، والفجوة بين من يمثل الجانب السياسي للثورة في الخارج والانقسام على نفسه هو أيضا، وبين من يمثل الثورة على الأرض في الداخل واتساع هذه الفجوة على مرِّ سنوات الثورة، حتى وصل الأمر بالجانب السياسي إلى التفكير بكيفية إعادة الثقة بينه وبين الشعب وإجراء ورش عمل بغية استعادة القرار الذي تلاشى أمام تصارع الدول على المسرح السوري، في حين وصل الأمر بمن هم في الداخل أنهم قادرون على كسب المعركة بمعزل عن الجانب السياسي الذي لم يعطَ له بالا ساعة التقدم واعترف به شريكًا لا بد منه في المعركة ساعة التراجع، وحقيقة لا تستطيع أي ثورة التحليق نحو الحرية دون جناحي العمل على الأرض والعمل على ترجمة المكتسبات خارجيا أمام المجتمع الدولي ونزع الاعتراف بها.
وأما ما حِيك للثورة ربما أبرزه إلباسها ثوب الإرهاب لخلق ذريعة التدخل لتدميرها، والتيه في لعبة كسب الوقت وإصدارات المؤتمرات للسيطرة من قبل نظام الأسد بهدوء عقب كل جولة وتقليص مساحة سيطرة الثوار، ونتيجة كل ذلك تحولت الثورة إلى بيادق تُحرك ويُزج بها إلى الموت. فبمقارنة بسيطة بين خريطة توزع السيطرة على الأرض السورية سنة 2013 وسنة 2018 ومآلات الواقع الثوري يتبين لنا حقيقة ما تعيشه الغوطة اليوم والحال الذي وصلت إليه، إذ نلحظ في خريطة 2013 لونين يظهران على الخريطة، الأخضر الذي يرمز إلى الثورة ونسبته أكثر من 70% والأحمر الذي يرمز إلى نظام الأسد وله النسبة المتبقية، في حين نلحظ في الخريطة حاليا ألوانا متعددة وتقزما للثورة ووصولها إلى جيوب متوزعة تُقضم واحدة تلو الأخرى، للأسباب التي سبقت وغيرها الكثير.
مرحلة التقزم التي باتت فيها الثورة السورية تعود بذاكرتنا إلى القضية الفلسطينية التي سُلبت حقوقها وتقزمت دوليا حتى أُعلنت القدس عاصمة إسرائيل هذا العام، ولم يستمر الغضب لأجل ذلك الإعلان سوى أيام قليلة، لأن القرار حُضِّر منذ عشرات السنين وسُرِّب عبر تلاشي القضية نفسها على مستوى أصحابها وعلى المستوى الدولي، فاختزال حقوق ومطالب الثورة السورية بسلتي الدستور والانتخابات اللتين خرجتا عقب مؤتمر سوتشي، والتركيز الدولي عليها مع تراخٍ في الوقت لسحق المزيد من الشعب وإيصاله إلى حدِّ القبول، دليل على تقويض الثورة ومحاولة إنهائها على هذا الشكل.
ممكنات الخروج من الواقع واستعادة زمام المبادرة أمر ليس بالمستحيل ويمكن تحقيقه وتدارك الغوطة والثورة، لكن عندما نطالع في الإعلام خبراً بالتجهيز لمعركة ستنطلق من درعا للتخفيف عمَّا يجري في الغوطة، ثم يأتي خبر آخر يفيد بتأجيل المعركة لأسباب بُررت بتثبيت نقاط التعزيز على جبهة حوض اليرموك كيلا تكون ثغرة لتنظيم الدولة، مع التأكيد على أن العمل سيجري بنوع من السرية! عندها ندرك تماما حجم التهاوي الذي نعيشه على مستوى الإعلام فضلا عن مستوى المعركة وجديتها بتحقيق المطلوب، وما ذلك إلا مثال واحد يلخص الأسباب السابقة لتبقى الغوطة وحيدة تستصرخ وتحتضر بتسارع المرحلة وسط ضياع البوصلة.