في فترة من فترات حكم حافظ الأسد كانت إحدى المعلمات في إحدى المدارس تغيب يوما وتحضر يوما، مديرة المدرسة كانت سيدة فاضلة، مربية ذات أخلاق ودين، وهي تعلم جيدا أن المعلمة لها دعم قوي من جهة أمنية أو عسكرية، بكل لطف طلبت السيدة المديرة من المعلمة أن تقلل من ساعات غيابها، كان الجواب وقحا لا تتلفظ به إلا عاهرة: “أنا فكيت الزر الأول من قميصي حتى أغيب يوم وأداوم يوم، وإذا بفك الزر الثاني ما رح داوم ولا يوم، بقى كيف بتحبي فك الزر الثاني؟”
وساد صمت قاتل، قتل كل القيم التي كان من المفترض أن تزرعها تلك المعلمة في نفوس تلاميذها، وجه السيدة المديرة صار أحمر اللون حياء وقهرا وانعقد لسانها!!
لم تستطع أن تغضب لتلاميذها وتمنع عاهرة من دخول المدرسة، وشعرت أنها تلقت ألف طعنة في كرامتها وأخلاقها.
يكفي هذا الجزء من الراوية التي سمعتها من لسان السيدة المديرة، وما لا يكفي هو أسئلة راحت تطرق رأسي بقوة وأن أتخيل عمق الكارثة والخراب وفساد القيم الذي كنا نعيشه في عهد الأسد، الأب والابن معا…!
هذه المعلمة كانت تعلم وتربي أولادنا في المدرسة، وهي أم لأولاد ربما أصبحوا أصحاب مناصب عليا في الدولة، وهي من كانت تأسس للرذيلة في شوارع المدينة التي تعيش فيها.
صمتت السيدة المديرة كما صمتنا جميعنا طوال أربعين سنة ماضية، لم نحرك ساكنا، كنَّا قد زرعنا في قلب تراب الرعب، وسقينا بماء الذل، كل صباح كنا نقف كالأشجار المتصلبة نهتف قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد، لا ندري من سماه أمينا، وأي أمانة لقائد يقتل جزءًا من شعبه ويطبق حصارا مميتا للقيم والأفكار على حياة بقية الشعب، حتى أنه إذا اعتقل أحد من أفراد عائلة ما، لا يجرؤ أي فرد من العائلة أي يسأل لماذا اعتقلوه؟ وأين هو الآن؟ قال ضابط في الأمن لأحد الآباء: “عليك أن تنسى أن لك ابنا” وبصق في وجه الأب وطرده!!
خرج الأب ذليلا وشكر الله أن الضابط لم يعتقله أيضا، فهناك ابنتين وزوجة في انتظاره ليخبرهم عن مصير ابنه الوحيد الذي لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره بعد.
بكى الأب بحرقة قهر الرجال، والتزم صمتا مع ابتسامة ميتة كان يرسمها على وجهه حين يسأل أحدهم: أين اختفى وسام؟ فيجيب: سافر إلى السعودية ليعمل هناك!
في كل مؤسسة للدولة كان هناك شخص يوصف بالمسؤول الأمني، يكون من أرذل الناس وأدناهم علما، وهو مخبر ومقرب من النظام، لا يُعصى له أمر ولا يرد له طلب، يمدُّ رجليه على طاولة المدير والوزير!
حتى الجوامع لم تخل من المخبرين، وكانوا في كثير من الأوقات يمارسون مهامهم في كتابة التقارير وزج الناس في المعتقلات وهم ينادون عبر مكبر الصوت حي الصلاة …حي على الفلاح، حيث كانوا مؤذنين يرفعون أصواتهم بكلمة الحق ويفعلون في السر أسوء الجرائم في حق عباد الله.
هكذا كنا مذعورين، قلقين، أذلاء ومقهورين، وحين تنفسنا لأول مرة نسمة حرية في المظاهرات السلمية ضد بشار الأسد، كان هواء الحرية رصاصا اخترق الصدور العارية، ودمارا هدم الأبنية العالية، وشعبا نصفه الآن يعيش في خيام بالية.
وكانت الحرية أغلى وأثمن وأجمل ما عشناه طوال أربعين عاما مضت، وصارت دماء شبابنا ونسائنا وأطفالنا رخيصة مقابل كلمة حق قِيلت لسطان جائر لا يرحم ولا يفهم سوى لغة الرصاص والتعذيب.
حرية وكرامة وقيم أخلاقية عليا تنازلنا عنها حين فكت المعلمة رز قميصها، وسكت المقهور وبكى بصمت! حرية نريد أن نستردها الآن، بعد أن بلغت القلوب الحناجر، وصار الشعب مطعونا طوال الوقت بآلاف الخناجر!
ومع الصرخة الأولى لأعظم كلمة (الله أكبر) في مظاهرات عمَّت كلُّ سورية كانت الثورة تفك أزرارها، لا كما فكت المعلمة زر قميصها، بل أزار زهر تفتحت عبقا بدماء شهداء أبرياء من شباب وشيوخ وأطفال ونساء، صرخوا في وجه الطاغية فاستحالت سورية ربيعا مليئا بأزهار الكرامة والعز، ولسان حال الكل يهتف إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.
1 تعليق
محمد
جميل… بورك قلمك