أ. عبد الله عتر |
سورة الشورى في سياق السيرة
نزلت سورة الشورى في أقسى أيام مكة وأكثرها ظلامية، حينها كان الرسول وأصحابه محاصرون بين جبال مكة الملتهبة في شعب أبي طالب، حصار شمل الاقتصاد والطعام والزواج وأساسيات الحياة، خرجوا ومعهم المشركون من بين هاشم وأقاموا هناك ثلاث سنين (7-10 للبعثة).
تعرضوا للمجاعة حتى أكلوا ورق الشجر، لم يهدأ زعماء قريش عن محاولات قتل الرسول خلالها، فكان يضطر أن يغير مكان نومه، وكان الصحابة يحرسون مداخل الشعب ومخارجه بشكل دائم. في هذه الأجواء نزلت سورة الشورى، والمعرفة بظروف النزول تساعدنا على فهم معاني السورة ونظم المعرفة الدينية فيها.
أبواب السورة.. الشورى والوحي.
مع خطوتنا الأولى في سورة الشورى تبدأ المفاجآت، فإذا تصفحنا السورة في مطلعها وخاتمتها نشاهد أمرًا غريبًا، تبدأ السورة بآية عن الوحي: “كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك”، وتختم بآية عن الوحي: “وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا”. حسناً.. سيكون الاسم المفضل لسورة تبدأ وتنتهي بالوحي هو سورة الوحي.. أخطأت التقدير، اسمها المعتمد سورة الشورى! ماذا يريد القرآن من وراء ذلك؟ لم نكد نقترب من أسوار السورة حتى وضعتنا في مفارقة الوحي والشورى.. إنها تخطف تركيزنا إلى اكتشاف العلاقة بين هذين الأمرين، وتعطي إشارة دقيقة أنه ليس ثمة تناقض ههنا.
لا يجب أن نتوقع من السورة أن تقدم الجواب مباشرة دفعة واحدة، فكثيرًا ما يعمد القرآن إلى تحفيز وعي قرائه بأسئلة مثيرة ثم يبني الإجابات حجرًا حجرًا، ويسحبنا كي نخوض تجربة ملهمة نفهم بها كيف يُبنى المعتقد والحكم القرآني في منطقه العميق.
إقرأ أيضاً: شمَّاعة الإنسانية والإرهاب في تخريب القيم (1)
إذن.. لنفكر حاليًا بين الوحي الفاتح للسورة والخاتم لها. توضح الآية الفاتحة أن هناك ميراث ديني مشترك بين الديانات المنزلة التي حملها الرسل وناضلوا لأجلها في أنحاء العالم، كما يذكر كثير من المفسرين مثل البيضاوي والنسفي. فالوحي الوارد في سورة الشورى هو نفسه الذي أوحي إلى الأنبياء السابقين في المجتمعات البشرية السحيقة والشاسعة: “كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك”. حيث تشير كلمة (كذلك) إلى أن معاني الوحي المنزلة متكررة متشابهة في رسالات السماء، وهو ما يسميه الرازي بـ “الدين المتفق عليه”، ويشمل العقائد والأخلاق وأساسيات الأحكام والتشريعات العملية.
لنتذكر هنا أننا ما زلنا بمكة، حيث يركز القرآن على العقائد والقيم الأخلاقية، مع قليل من الأحكام العملية. حين يهاجر الرسول إلى المدينة سيتغير الوضع ويغدو التركيز على أمرين: مضمون الدين المشترك، والشريعة المحمدية الخاتمة.
خُتمت السورة بالوظيفة والمهمة التي سيضطلع بها الوحي القرآني، وهي أنه سينير درب الحياة أمام الناس، كلما وقفوا على مفترق طرق أرشدهم أي الطرق هي الموصلة للمصلحة والخير، باستقامة ودون عوج: “جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم”.
وحي موجه للعالم
في وسط السورة يأتي ذكر الوحي صراحة وبالصياغة اللغوية نفسها التي أصبحت كأنها شيفرة داخل السورة: “وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربيًا”، فالوحي النازل إلى الرسول فيه مضمون عالمي، ينسكب في وعاء اللغة العربية واللسان العربي.
لمن يتوجه هذا الخطاب؟ من المتوقع أن تخبرنا السورة بأنه موجه إلى العالم طالما أنه يحمل مضمونًا دينيًا عالميًا مشتركًا، ستقول السورة ذلك لكن ليس بهذه الطريقة، بل بطريقة أخرى: “لتنذر أم القرى ومن حولها”، إنه موجه إلى العالم ابتداءً من واقع مكة الصعب حيث المسلمون يعيشون معاناة تدفع لليأس، نلمس هنا تركيزًا على البعد العملي الدنيوي الذي ينتشر من خلاله الوحي، والوعي بالشروط العملية للحياة أمر سيتكرر في سورة الشورى.
الوعي المنفتح يكسر الحصار
إذا كان لقارئ القرآن أن يتعجل ويستنتج شيئًا ما من تلك المعلومات الأساسية عن سورة الشورى، فمن أبرز الأمور اللافتة للانتباه أن السورة تفك الحصار عن وعي المؤمنين، حصار الوعي الذي ينشأ عن الحصار الفعلي وقيود الواقع البائس، تطالبكم أن تؤمنوا بالدين العالمي المشترك الذي بدأ بالنبي نوح: “شرع لكم من الدين ما وصى بها نوحاً”، وأن عليكم أن تعملوا الكثير لأجله، وأن الوحي سينير دروب الحياة القاسية التي تواجهونها، وأن رسالتكم موجهة للعالم كله بما فيه أعداؤكم، وخلال كل ذلك تحملون مبادئ يتوسطها مبدأ الشورى: “وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون” “إذا أصابهم البغي هم ينتصرون” “ولمن صبر غفر إن ذلك لمن عزم الأمور”.
يدفعهم القرآن وسط الحصار إلى التفكير العالمي الممتد، وإلى الانتصار على البغي ومكافحة الظلم، وإلى سعة النفس والقدرة على الغفران، مستعينين في ذلك كله بالوحي والشورى.
إقرأ أيضاً: شماعة الإنسانية والإرهاب في تخريب القيم (2)