في العشرين من تشرين الثاني سنة 2017 أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الرئيس السوري بشار الأسد بيانا مشتركا من مدينة سوتشي الساحلية على البحر الأسود حول انتهاء العمليات الروسية في سورية، ووقف الرجلان هادئين محاطين برجال يرتدون الزي الرسمي، وكان بوتين قد قدمهم على أنَّهم من “لعبوا دورا حاسماً لإنقاذ سورية”، وأكد بوتين لمستمعيه أنَّه والأسد ناقشا كل القضايا ذات الشأن “لإعادة الوضع الطبيعي الى سورية”، كما أعاد الرئيسان شكر القوات الروسية على شجاعتها وتضحياتها في القتال ضد الإرهاب وتهيئة الظروف المواتية للحوار السياسي.
وتم تعزيز بيان الأسد وبوتين في سوتشي من خلال جولة بوتين المهيبة على حلفاء روسيا في الشرق الأوسط وهم سورية ومصر وتركيا الاسبوع الماضي، ممَّا شكل ردا على تحذير الرئيس الأمريكي السابق باراك اوباما عام 2015 من أن حملة قصف محدودة قد تجر روسيا الى مستنقع في سورية، لكن هذا أدى أيضا الى نقلة في تغطية الإعلام الغربي للحرب، فهو الذي عكف على إلقاء اللوم على الأسد وعلى اشتراك بوتين في قصف المدن والهجمات بغاز السارين والنزوح الجماعي للاجئين ومراكز التعذيب التي شكلت سمة من سمات الحرب في سورية، أما وقد مالت كفة الحرب لصالح الأسد كثيرا، فقد بات مسموحا برسم صورة جديدة للرئيسين السوري والروسي على أنَّهما رمزان للاستقرار.
ولم يكن التلفزيون الحكومي الروسي بحاجة لمثل هذه النقلة، فقد عكف لسنوات على طرح المبرر المفضل لدى الكرملين للتدخل في سورية وهو: “صراع الحضارات”.
وأكَّد معلقون ذوو شعبية واسعة مثل ضيف القناة الأولى فلاديمير بوسنر على قرب سورية من روسيا ومن حدود وسط آسيا، وكذلك الأخطار الكامنة بسبب عدد المسلمين الكبير داخل روسيا، وقال بوسنر متحدثا إلى بعض متابعيه في شهر تشرين الأول سنة 2015 من مطعمه بموسكو: “لا يجوز أن ننتظر حتى تأتي داعش إلينا، فهي ليست بلدا يمكن احتلاله، لديها أيديولوجيا قوية، ويجب أن نريهم أنَّ الله ليس معهم”.
لقد بقيت معالجة الإعلام الروسي لموضوع سورية لوقت طويل معزولة عن الحوار العالمي الأوسع عن الحرب والعلاقات الأمريكية الروسية، ويمكن للغرب حتما أن يستفيد من فهم روسي أفضل، وهو لا يعني أن تصوير وسائل الإعلام الروسية لاستراتيجية الشرق الأوسط يجب أن يؤخذ شكليا، ولحسن الحظ ثمة وصف أكثر واقعية وشمولا لأهداف الحكومة الروسية في المنطقة، ومناطقها المعتمة، وهو متوفر بشكل كتاب جديد موجز لديمتري ترنين بعنوان؟ ماهي روسيا حتى في الشرق الأوسط؟
يحتل ترنين مكانا مرموقا عند الغرب لعمله لشرح روسيا للغرب، وخلال الحرب الباردة خدم 21 سنة في الجيش السوفياتي، خمسة منها في المخابرات كضابط ارتباط في فرع العلاقات الخارجية في القوة السوفياتية في ألمانيا الشرقية وكعضو في الوفد السوفياتي إلى محادثات السلاح النووي في جنيف أواخر الثمانينات، ومنذ تقاعده برتبة عقيد بات المدير الروسي الأول لمركز كارينجي بموسكو، وهو الفرع الإقليمي لمنحة كارينجي للسلام العالمي وأول مركز أبحاث استراتيجية يفتتح في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
ومنذ انطلاقته التزم مركز كارينجي في موسكو بتحسين العلاقات الروسية الأمريكية من خلال زيادة تعريف الغرب باهتمامات السياسة الروسية وأهدافها وتطوراتها، وهدفه الثانوي هو إعطاء مثال عن مركز مستقل للبحوث السياسية في روسيا. (وكلتا الهدفين حظيا بالموافقة الضمنية للحكومة الروسية، إن لم يكن المصادقة التامة: إذ يطلب قانون جديد صدر عام 2012 من جميع المنظمات غير الربحية التي تتلقى تبرعات من الخارج أن يعلنوا أنفسهم وكالات أجنبية، وبرغم تلقي مركز كارينجي هبات أجنبية سخية إلا أنَّ الحكومة لم تضعه على لائحة المنظمات غير المرغوب فيها”.
وكي يشرح لماذا وصلت روسيا إلى سورية، يبدأ ترنين في كتابه بانتقاد موشور الحرب الباردة (لأنَّ الموشور يعطي رؤية غير صحيحة) الذي يحبه منتقدو روسيا مثل المستشار الأمريكي موللي مكيو الذي قال: “لقد انتصرنا في الحرب الباردة الأخيرة وسننتصر بالحرب القادمة أيضا” وحذّر ترنين من أنَّ هذه الآراء تضلل التوقعات للعالم الجديد الذي تشكّل بغياب الستار الحديدي وعلى الأهمية الثانوية للعلاقة الروسية الأمريكية بدلا من الأهمية المحورية بين الولايات المتحدة وروسيا.
كما تؤدي إلى تضليل التوقعات حول روسيا، التي لم تعد النظام الثوري الأيديولوجي الذي كان، بل يجب اعتبار روسيا بلدا ضمن الاقتصاد العالمي الرأسمالي وفسحة المعلوماتية العالمية، وهي تكافح للبقاء ككيان جيوسياسي رئيسي مستقل ضد القوى العظمى من منافسيها، كما يقترح ترنين استخدام اللغة المستعارة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب: موسكو اليوم مستعدة “لعقد اتفاق”.
ففي النظام العالمي الجديد التاريخ مهم، فحسب ترينين لا يشكل التراث التاريخي مصدر إلهام لصناع السياسة الحاليين فقط، بل إنَّ روسيا باتت أكثر إدراكا لجذورها التاريخية، ويمتد التاريخ الذي يتحدث عنه ترنين في الأزمة الحالية في الشرق الأوسط ما بين المسيحية في كييف في القرن العاشر إلى خيانة الغرب لروسيا بعد الحادي عشر من أيلول، وهذه القصة في الغالب واحدة من محاولات روسيا للتوسع بدافع الوصول إلى البحر جنوبا وشمالا، واشتباك بطرس الأكبر مع العثمانيين في البحر، ودخول نيكولاس الثاني الحرب العالمية الأولى بهدف السيطرة على مضيق البوسفور والدردنيل، ومطالب ستالين بامتيازات خاصة في المضائق التركية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ وهو خطأ ناجم عن سوء تقدير فقد أدى هذا الطلب إلى ارتماء تركيا في أحضان السلاح الأمريكي.
ويحتوي هذا السرد التاريخي على بعض الإغفالات المزعجة، فهو مثلاً يفترض وجود علاقة سببية بين فشل إسرائيل في الوفاء بالمطالب الدبلوماسية السوفيتية وحملة ستالين المعادية لليهود أوائل الخمسينات، وهذا مقلق للغاية؛ لأنَّه يلقي الضوء على عمليات التطهير العرقي الموثقة على لليهود خلال حملات الاتحاد السوفيتي في الأربعينيات، كما يوجد العديد من التعبيرات المعادية للسامية.
ومع ذلك فترينين محق في افتراضه أنَّ التجربة التاريخية الأكثر وضوحا لفهم نهج موسكو الحالي كانت خطيئة غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان عام 1979، فهذه الحرب صاغت إلى حد بعيد النظرة الروسية حيال الترابط بين السكان المسلمين المحليين والمسلمين الأجانب في روسيا فيقول في كتابه:
لقد بيّنت هذه الحرب لموسكو للمرة الاولى قوة الراديكالية الإسلامية وقوة التضامن الإسلامي العابر للحدود، كما علّمتها أن تهتم بإنشاء التحالفات في ذلك المكان من العالم كتكتيك جوهري والتنقل السريع، حيث لا أصدقاء دائمين ولا أعداء دائمين، ويمكن استحضار هذه التجربة حالا مع بدء انهيار الاتحاد السوفياتي في طاجيكستان ثم في شمال القوقاز، حيث واجهت روسيا عدواً قريب الشبه بالمجاهدين الأفغان.
ويمكن فهم لماذا يركز ترينين على الدروس المستفادة من حرب خارجية بدلا من حروب محلية كالشيشان، فقد تمت إعادة كتابة تاريخ هذه الحرب الأخيرة على أنَّها انتصار حاسم لبوتين، حيث بلغ ذروته في تنظيم استفتاء دستوري مدعوم من قبل موسكو، وانتخب أحمد قاديروف كرئيس محلي مؤيد لموسكو عام 2003، وبرغم هذه الرواية عن الانتصار الساحق، إلا أنَّ تصوير ترينين للثغرات الأساسية للسياسة الخارجية والمحلية عن الحديث عن سورية يدل على أنَّ القلق من عمليات الخطف والتفجيرات بالسيارات وعمليات الاختطاف وغيرها من أشباح الحرب الشيشانية
مازالت تطارد السياسة الروسية المعاصرة.
إنَّ هذا القلق من العالم الإسلامي داخلي وخارجي على حد سواء، حيث تصبح السياسة الخارجية الروسية مهووسة بتعزيز استعلائها الحضاري والدفاع عنه.
وهذا لا يأخذ دوما شكل تدخل عسكري صارم، ففي شهر أيار عام 2016 عزفت أوركسترا ماريينسكي مقطوعات لباخ وبروكوفيف ورديون شديرين وسط آثار تدمر بعد فترة قصير من سيطرة قوات الأسد عليها.
وطبقا لصحيفة نيويورك تايمز فإنَّ نسخة الحفل الموسيقي الذي بثه التلفزيون الروسي رافقه عرض لقطات من فظائع ارتكبتها الدولة الإسلامية، وانتهت بلقطات يشكر فيها بوتين الموسيقيين من منزله على البحر الاسود لتقديمهم “الأمل في أن تتعافى حضارتنا المعاصرة من هذا المرض الرهيب وهو الإرهاب الدولي”، وبالنسبة إلى بعض المراقبين فإنَّ هذا كان تكرارا لحفل جيرجيف سنة 2008 في تشنيفالي، عاصمة أوسيتيا الشمالية المدمرة، فعلى خلفية مبانيها المدمرة أدت ماريينسكي سيمفونية سوفيشتاكوفيش السابعة التي أذيعت أثناء الحصار النازي لمدينة للينينغراد (سان بطرسبرغ).
وبإقامة الحفل في تدمر ادعت روسيا أنَّها استعادت منطقة أخرى مزعزعة للاستقرار باسم الحضارة الروسية، وقدمت السفارة الروسية في واشنطن ذات الحجة، وبعدها عبّر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري عن قلقه من قيام الطائرات الروسية بقصف حلب بشكل مشابه للاستراتيجية التي اتبعها الكرملين في قصف الشيشان، فأطلقت السفارة تغريدات عن صور لإعادة إعمار غروزني بمليارات الدولارات التي أنفقتها موسكو والخليج تحت عنوان: ” أليس هذا هو الحل الذي كنا نبحث عنه جميعا؟”.
إنَّ إعادة تسليط الضوء على الحضارة الروسية على المستوى المحلي والعالمي، يثير مخاوف الكرملين من رد فعل الحضارة السياسية للغرب، حيث رأت موسكو الاحتجاجات في تونس ومصر استمرارا للثورات الملونة التي اجتاحت بلغراد وجورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان في العقد الأول من القرن الماضي، وربطت هذه الثورات مع الاحتجاجات في روسيا في عامي 2011و2012 وكييف في عامي 2013و2014 وكذلك ما حدث في سورية.
وفي النهاية ما دفع الكرملين للتدخل في سورية كما يقول ترينين كان ليبيا، حيث احتفظت روسيا بالعديد من العقود بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لمبيعات السلاح ومشاريع البنية التحتية التي بلغ مجموعها نحو 7 مليارات دولار، وعلى أمل مشاركة روسيا مع الغرب فقد امتنعت عن عرقلة قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والذي أعلن منطقة حظر للطيران فوق ليبيا في الوقت الذي كان فيه القذافي يشن هجوما مضادا على معارضيه، وأدى هذا في النهاية الى تغيير النظام وتفكك الدولة الليبية، الأمر الذي أكد لروسيا أنَّ الولايات المتحدة ليس لديها موانع من تجاوز الحدود التي حددتها قرارات الامم المتحدة، وأنَّ الامريكيين لم يتمكنوا من توقع العواقب المباشرة على أفعالهم، وبعد هذه الخيانة –وفقا لترينين- بدأت روسيا بمنع صدور أي قرار قد يكون ذريعة للتدخل العسكري الأجنبي في سورية وبتزويد الأسد بالسلاح، ولم تبدأ الولايات المتحدة في التعامل مع روسيا على قدم المساواة إلا بعد آب 2013، بعد الهجوم الكيميائي في سورية الذي أجبر أوباما على قبول اقتراح بوتين بتجريد سورية من الأسلحة الكيميائية.
ماذا يتطلب بناء الثقة؟ وفقا لكلام بوتين وترينين فإنَّ موسكو تسعى إلى تحالف مع الولايات المتحدة التي يجب أن تجري تغييرا جذريا في التصورات الغربية لروسيا من رؤيتها كمنافس إلى رؤيتها كشريك في مكافحة الإرهاب العالمي، أمَّا ما يجب أن تقدمه روسيا لهذه الشراكة فهو متوقف على قدرتها المذهلة على بناء التحالفات والتفاوض عبر الانقسامات التي لا يمكن تجاوزها في سياسات الشرق الأوسط، بين السنة والشيعة، وبين إسرائيل وإيران، وبين إيران والمملكة العربية السعودية، وبين تركيا والأكراد، وبين الحكومات المتنافسة في طرابلس وطبرق في ليبيا.
ومع ذلك فإنَّ تنفيذ هذا الاتفاق يتطلب إبداء حسن النوايا في تعريفات بوتين للإرهاب والحضارة، وفي روايته لما حدث في سورية كحماية للدولة والحوار السياسي، وهذا الحوار لا يبدي أي اهتمام بالتفاعلات الداخلية في سورية، فضلا عن أصوات الكثير من السوريين الذين عارضوا نظام الأسد.
ربما لولا النظر إلى سورية على أنَّها صورة مصغّرة من نظام عالمي يعاد تشكيله ليتخلص من الهيمنة الامريكية إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب يضم روسيا، قد نرى سورية كمكان تُراعى فيه مصالح السوريين أنفسهم، بما في ذلك اللاجئين العائدين.
وقد يعني هذا الاقتراب من المستقبل ليس كعملية تقارب بين واشنطن والكرملين وإنما المصالحة الحقيقية الصعبة على المدى الطويل من جانب الولايات المتحدة وروسيا على حد سواء.
الكاتب: ماشا كيراسيروفا الأستاذ المساعد بكلية التاريخ بجامعة نيويورك
صحيفة: فورين بوليسي الأمريكية
رابط المقال الأصلي:
http://foreignpolicy.com/2017/12/15/what-vladimir-putin-wants-in-the-middle-east/