بقلم أحمد أبازيد
في السنوات الأخيرة أصبح ملاحظاً وجود اتجاهات نسوية “فينيميزم” صاعدة في ظل الثورة السورية، عبر موجة منظمات المجتمع المدني المدعومة دولياً خاصة، وجرى تصعيد لقضية “حقوق المرأة” و “تمثيل المرأة” وإدراجها في جدول دورات المنظمات الدولية وفي مطالبات الدبلوماسيين الدوليين لقوى الثورة السورية.
وكان أشهرها -وأكثرها ابتذالاً-كلام دي مستورا عن نسبة الثلث للنساء في هيئات الثورة، ثمَّ تأسيسه مجلس النساء الاستشاري الذي تشارك فيه السيدة منى غانم، التي تقدم نفسها كمعارضة للنظام، أو بتعبير النظام كـ “معارضة الداخل” باعتبار سكناها في دمشق، حيث تعتبر قوى الثورة في حلب وإدلب والغوطة ودرعا “معارضة الخارج”، الجغرافيا هنا هي جغرافيا السلطة لا الوطن…
وما يعني السيدة منى غانم هو قضية المرأة و(الجندر) وهذا طبيعي لا مشكلة فيه، من حق أي إنسان أن يهتم بقضيته، ولكن من هي المرأة التي تهتم بها منى غانم؟ وما الحقوق التي تدافع عنها؟
تعبِّر منى غانم عن القضية في مقالها الأخير في “الحياة” بعنوان: معاناة السوريات… والحرب لإسقاط النظام. بالنسبة إلى الكاتبة “المعارضة” فإنَّ المرأة السورية كانت في وضع أفضل من مثيلاتها عربياً حتى عام 2011م، لأنَّ الحكومة كانت تعيّنها كوزيرة (بثينة شعبان) وحتى نائبة رئيس (نجاح عطار).
ولكن منذ تحول الحراك السلمي الديمقراطي إلى العنف، تدهور وضع المرأة، بسبب داعش وجبهة النصرة والنكوص للتراث الإسلامي ما أدى للعودة إلى ما قبل 1500 سنة من جهة، وبسبب “معسكرات اللجوء” على حدَّ تعبيرها من جهة أخرى، حيث انتشرت الدعارة والزواج بالإجبار، وبسبب أنَّ “دعوات الحرية والديمقراطية” التي نادت بها الثورة طبعاً قد تحولت سريعاً إلى ” دعوات للعنف والتطرف كانت المرأة أولى ضحاياه فتعرضت لكل أشكال العنف الجسدي والجنسي”.
أما مناطق “السلطة” ولأنَّ السيدة الباحثة منى غانم موضوعية ومنصفة فهي تشير إلى تدهور خطير فيها بالنسبة للمرأة، يمثله أن الشباب ذهبوا للجيش فاضطرت المرأة أن تقوم بالأعباء الاقتصادية.
لا يرى هذا الخطاب عشرات الآلاف من النساء القتيلات بقصف طيران النظام أو مدفعيته أو أسلحته الكيماوية، ولا ترى قرابة 10 آلاف امرأة معتقلة الآن -على أقل تقدير-في سجونه يتعرضن أيضاً لانتهاكات لحقوقهن بالكرابيج أو بالكهرباء أو باغتصاب “الحكومة” الشرعي أو بالقتل تحت التعذيب، ولا ترى العدد غير المعروف من النساء اللاتي جرى اغتصابهنّ في اقتحامات “السلطة” لمناطق “دعاة العنف والتسلح”.
ربَّما لأنَّ ذكر شيء من هذه الأمور الثانوية يخدش من حيادية التيار الثالث المرهفة، أو لأنَّ هذه الأمور تمت خارج حدود معارضة الداخل، أو لأنَّ الشعب الذي حصل له ذلك ليس هو من يعنيها فعلياً، أو لأنَّها ليست الحقوق التي يهتم بها حماة الجندر، أو بسبب كل ذلك، وهذا ما أميل إليه.
المرأة في هذا الخطاب -الحريص عليها-هي صورة الفتاة في دعاية عطر فرنسي أو فيلم أمريكي رومانسي، وحسب حدود هذه الصورة تتلخص المرأة المقصودة وحقوقها، أما ما يتعلق بحقوق المرأة كإنسان يشترك مع مجتمعه في مظلوميته أو أهدافه أو ثقافته فليست ضمن دائرة اهتمام حقوق المرأة.
المرأة القتيلة بقصف النظام على سوق في دوما لا تهمّ مؤتمرات الفيمنيزم، ولا المرأة التي اعتُقلت من مظاهرة في حلب وعُذّبت في فروع “الحكومة”، ولا المرأة التي ماتت من الجوع في إحدى مناطق الحصار بجنوب دمشق أو حوض بردى، ولا بالضرورة يهمّها المرأة التي فقدت أبناءها أو زوجها أو عائلتها بحرب نظام الأسد والميليشيات الشيعية والطيران الروسي على الشعب السوري وثورته، عذراً أعني على مناطق “دعاة العنف والتسلح” الذين أصبحوا مستباحين وليسوا أصحاب حقوق أو مظالم بسبب خطيئتهم التاريخية حين فكروا بفعل أمر أمام رصاص “الحكومة”.
ولكن المرأة التي تضطر للبس الحجاب بسب فصيل تأثر بالتراث الإسلامي فـ”نكص” إلى ما قبل مولد الرسول نفسه -بناء على حسبتها التاريخية العجيبة-هي المعنية بحقوق المرأة (وإن كنت أتبنى موقفاً سلبياً تجاه خطاب الجهاديين وغيرهم من الإسلاميين حول المرأة)، أمَّا الفتاة التي تتعلم الباليه في دمشق برعاية الحكومة هي الشاهدة على هذه الحقوق وتطورها.
والضغط الدولي لأجل ضمان نسبة للمرأة في هيئات سياسية مطلوب، أمَّا مشاركة المرأة مع مجتمعها وبإرادتها في المناطق المحررة ضمن الحراك الثوري سواء المدني أو الطبي أو العسكري أو بمحض معارضتها للنظام فهو أمر ملغي، لأنَّها لم تشارك ضمن بند “حقوق المرأة” ولا ثبتت مشاركتها على خرائط الجندر.
يعترض الخطاب النسوي على ذكورية المجتمع والخطاب المقابل، ولكنَّه لا يقدم المرأة إلا ككائن محصور بجنسه ومتمايز عن المجتمع، وكل قضية تجمع المرأة مع هذا المجتمع -بحياته أو موته-فلا تعني هذا الخطاب، لأنَّ المعنيّ فقط هي القضية التي تُعامل فيها المرأة بقصد واعٍ بناء على جنسها كامرأة، وبقصدٍ واعٍ تجاه تحويلها لامرأة تشبه دعايات كوكو شانيل.
ويعترض دعاة الخطاب النسوي على دعاية خصومهم المحافظين ضدّهم أنَّهم نشؤوا كذراع “للغزو الثقافي” ومرتبط بمؤسسات الاستعمار، ولكنَّهم يكررون الخطأ نفسه بأن يربطوا أنفسهم طواعية بأنظمة ديكتاتورية توحشية ويؤكدوا على شرعيتها ومحاسنها تجاه المرأة لأنَّ قمع هذه الأنظمة علماني وحداثي بالنسبة إلى لباس المرأة ولا يتبنى قيود “الإسلاميين”، ولو فعلت هذه الأنظمة ما فعلت بعد ذلك، إضافة إلى أن يكون حامل مشروعهم وخطابهم -شبه الوحيد بعد انهيار الأنظمة-هو المنظمات الدولية لا المجتمع نفسه.
ولا يقتنعون أيضاً أن هناك فعلاً نساء ومجتمعات يتبنون ثقافات محلية محافظة وليسوا بالضرورة أسرى “نكوص” ومظلوميات، وأنَّ ظلم الإسلاميين أو تصوراتهم حول المرأة ليست ضمن مستوى واحد ولا تعمم النقد على عامة أفكارهم حول قضية المرأة فضلاً عن التراث الإسلامي بالضرورة، خاصة أنَّه في معظم التجارب السياسية العربية الحديثة كانت أعلى نسبة تمثيل للمرأة هي في أحزاب الإسلاميين.
إنَّ المواقف الفجة لا تحتاج تحليلاً معمقاً، والشعارات المكررة بلا معنى حول الحداثة والتنوير والعقلنة حين ترتبط بحياد تجاه الأنظمة الدموية ومواقف ضد المجتمع، وتحتقر فئات كاملة منه بسبب ثقافتها أو مواقفها السياسية، لا تعبر عن فلسفات عميقة أو اصطفافات فكرية حقيقية، بقدر ما تعبر عن طبقية أصحابها ونمط علاقاتهم وأولوياتهم الخاصة.
قد تقلد هذه الخطابات بعض الشعارات الحداثية فعلاً، ولكنها دعوة للأناقة المُلبْرَلة فقط، ولا يعنيها غير طبقة النساء التي تظهر بهذا الشكل أو تريده، حداثة نظيفة وجميلة لا تتغبر بالتراب، ولا يعنيها كذلك التراب المتبقي فوق جثث النساء القتيلات مع عوائلهنّ لأجل قضية، ولا يعنيها تراب الأرض الذي قد تنتمي إليه وتدافع عنه وعن ثقافته امرأة مع مجتمعها بوجه “الحكومة”، ولا يعنيها تراب الإنسان نفسه بقدر استيهامات استشراقية وقضايا مصطنعة مرتبطة بجنسه… هذه نسوية ضد الإنسان… وحداثة ضد التراب.
نقلاً عن مدونات الجزيرة