علينا أن ندرك أنَّ معظم السياسيين مدركين لدرجة كبيرة ماهية الوعي السياسي الشعبي وطرق تشكله وحوامله وموجهاته التي تحدثنا عنها فيما سبق، بل وإنَّ أكثرهم مدعوم باختصاصين ومراكز دراسات تحلل لهم هذا الوعي، لتعطيهم أدقَّ النتائج الممكنة التي يبنى على أساسها الخطاب.
الحقية الأكيدة في هذا الصدد أنَّ السياسي يحقق مصلحةً، ولا يستجيب لنداء الجماهير فقط. قد يكون هذا السياسي يهدف حقاً إلى خدمة الجماهير، وإلى تحقيق تطلعاتها، وإلى بناء دولته بالشكل الأمثل الذي يحلم به المواطنون في آنٍ واحدٍ معاً، لكنَّه يدرك الصراعات التي تحكم المشهد حوله، والمنافسات التي يقوم بها خصومه بكلِّ الطرق المشروعة وغير المشروعة، وكيفية تجيير الجماهير ضده، لذلك لا يجد بدًّا من خوض اللعبة نفسها سواء كان يحمل هدفاً نبيلاً أو خسيساً، فالأمران يحتاجان خطابا متقنا ودعما جماهيريا كبيرا، والأعمال هي من تحكم على مدى مصداقية السياسي من كذبه، هذه الأعمال التي تتغير وفقاً لتغير هدف الجهة السياسية التي يمثلها، أو أهواء الناخبين الذين أوصلوه إلى سدة المسؤولية.
السياسي يخاطب بالدرجة الأولى الناخب، لأنَّه يريد ضمان صوته بشكل دائم، فيتحمس حيث يرى الحماس، وربَّما يطلق المثاليات الجوفاء، ويتراجع حيث يرى الناخب قد تراجع، ودائما تخبره استطلاعات الرأي ومراكز الدراسات بحال الناخبين.
والسياسي كأيِّ شخص صاحب مصلحة يحشد باتجاه التوقعات حيناً، والحقائق حيناً آخر، والمشاريع التي يهدف لها في أجندته حيناً ثالثاً، ويستخدم كلَّ الأساليب لإقناع الشعب بما يقتنع به، فأي تيار سياسي يحاول أن يطبع المجتمع بطابعه، وهو حقٌ مشروعٌ لمن نجح في صناديق الاقتراع من أجل ضمان نجاح دائم، وسيواجه خصوماً لا يفترون، لذلك عليه ألَّا يستهين بشيء مقابل النجاحات العملية فقط.
والشعب في طبيعته ميال لمن يراعيه، يراعي ظروفه واحتياجاته، ولا يحبُّ من يدخله في مغامرات غير محسوبة، مهما كان الحماس الجماهيري لها بدايةً، سرعان ما يفتر عندما تبدأ المخاطر بالظهور، ويبدأ البحث عن الحل هو الهاجس لدى الجميع، ولا تستطيع أي نخبة الوصول إلى نصر بعيدٍ عن القاعدة الجماهيرية.
طبعاً الخطاب السياسي له وجه آخر هو (خطاب الخوف)، حيث يصدق الجمهور جميع كذبات السياسي اتقاءً لبطشه، ويأمل أن يكون صادقاً، ويرى في صدقه لمرات قليلة مكرمةً لا يجب أن تضيع، فالمصلحة والأمان، والخوف من عدم الاستقرار هاجس مقلق، يجعل المواطن يتنازل عن الكثير في سبيل المتاح.
طبعا الثورة تولد في ظروف كهذه، لكن إن لم تمتلك مشروعاً أفضل من النظام القائم، فسرعان ما سيبهت خطابها في قلوب الجماهير، وسيسيطر الخوف عليهم، ولن يتمتع بالحماس البطولي سوى النخبة الثورية التي ستخوض صراعاً غير مضمون النتائج على الإطلاق إذا لم يُدعم بتحالفات مصلحية قوية.
المدير العام | أحمد وديع العبسي