ظهر أوَّل خطابٍ سياسيٍ سوريٍ بعد الثورة بوضوح عند تشكيل المجلس الوطني السوري آواخر 2011، تبنَّى هذا الخطاب لغة الثوار نفسها، بل زاود عليها أحياناً في تخيل الجنَّة الموعودة، دون أيِّ وعيٍ صراحةً لطبيعة الدولة السورية والشعب السوري، والأسس البسيطة التي قامت عليها الثورة، ومن أجل كسب تمثيل حقيقي له عند الشعب السوري، راح يردِّد بزخم مطالب الشارع وثوابته على الرغم ممَّا ظهر في هذا الخطاب من انفصال عن الواقع كأي خطاب ثوري في بداياته الحماسية البكر.
طبعاً لم يملك المجلس الوطني، وهو الذي شُكّل خارج سورية، خياراً آخر في خطابه ليستطيع إقناع الناس بضرورة البدء بعمل سياسي، وإقناعهم بأنَّ هؤلاء السياسيين يمثلونهم ولا بدَّ من بناء مصالح مشتركة بين الميدان والسياسيين من أجل الوصول إلى نتائج حقيقية للثورة.
عندما أراد المجلس الوطني الانتقال من حيِّز الخطاب إلى حيِّز العمل السياسي، بدأت اللغة بالتغير وفق الممكن والمتاح، والذي كان كبيراً يومها، لكن فوضى العواطف في البداية، والألق الكبير للربيع العربي وللثورة السورية بشكل خاص بعد مشاهد الانتصارات الحاسمة، جعلت تسريبات بعض المواقف لبعض أعضاء المجلس تخلق فجوةً كبيرةً بين الجماهير والسياسيين، وبدأت لغة التخوين من الأرض، شجعها النظام والقوى الراديكالية، والتصور الفطري لصفاء الثورة وصفاء النصر المرتجى.
لن أطيل هنا، فالمجلس الوطني لم يضطلع بأي عمل حقيقي، إذ إنَّ التقدم على الأرض كان أسرع من لغة السياسة المتوفرة حينها، فظهرت الانقسامات السياسية التي تحترف لغة التعالي والمزاودة، إلى حين تمَّت لملمة هذه الفوضى بعد سنة بتشكيل الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة.
لم يختلف الخطاب السياسي للائتلاف عن المجلس الوطني سوى أنَّه كان أكثر مزاودة من قبل تياراته المختلفة، واختفى صوت العقل فيه تقريباً، إلا من بعض المبادرات الجادة التي طرحت رؤيا واقعية للحل كمبادرة معاذ الخطيب على سبيل المثال في 2013.
تميَّز الخطاب السياسي للائتلاف بكونه خطاباً شعبويًّا ليس واعياً بالأصل، وأخذ يردِّد كالببغاء في تلك الفترة كلَّ ما يقال على الأرض، ويتغاضى عن الانقسامات الكبيرة الحاصلة ويدَّعي أنَّها وحدةٌ صلبةٌ غير متفتتة.
ومع تعاظم الانتصارات في 2013، صارت لغة الواقع والعقل مغيبة سواء من خلال السياسيين أو من خلال إمكانية تلقي جمهور الثورة، وأصبح تخيل الجنَّة الموعودة أكبر من ذي قبل، ونجحنا كسوريين جميعاً في رفض الحلول الممكنة، والانسياق نحو الجحيم، عبر تخيل البطولات، وعدم إدراك موازين القوى ومصالح الدول الكبرى، وتخيلنا أنَّنا سنستطيع هزيمة كل شيء لوحدنا أو بدعم إقليمي معين، أو بدعم قطبي تجاه قطب آخر.
المدير العام | أحمد وديع العبسي