منيرة بالوش |
كلما هممت بالكتابة عن موضوعٍ ما، يصدأ قلمي رافضاً الخوض في أمور الحياة، ويقطع هدير الطائرات الحربية وصافرات الإنذار سلسلة أفكاري احتلال الجو من الجديد، فما نفع الكتابة في هذه الحال؟!
أي حبرٍ سيسعف أقلامي حتى تواسي من ضمه الركام بقوة؟!
وأيُّ كلامٍ سيُجبرُ قلوب الأمهات المنكسرة، وهن يمضغن ألمَ الفقد ويتجرعنَّ الصبر حد الشبع ككل المرات السابقة؟!
في الأمس، لم ترحمْ طائراتُ الوطن الحبيب الناس الآمنين في بيوتهم، بل وأمطرتهم وابلاً من نارٍ يحرقُ أمنهم واستقرارهم وفلذات أكبادهم…
فبين الهدنة والأخرى تفنى أجيالٌ وتندثرُ قرىً وتُباد إنسانية العالم الأصم للمرة المليون.
وخلال هذه الهدن يعيش المواطن حياته لكن مع وقف التنفيذ!!
ها هم الطلاب استعدّوا للمدرسة ولكن مع وقف التنفيذ أيضًا، المدارس مغلقةٌ حتى إشعارٍ آخر، ويبدو أنه لا يوجد بارقة أملٍ ليكملوا دراستهم كــباقي الطلاب في العالم!
والنساء يفتقدن الأمان ويعشنَ محاولاتٍ فاشلةً لإخفاء الخوف والتوتر عن عيون أطفالهن، وعلى أُهبة الاستعداد للهروب بهم إلى أقرب ملجأ، إن وجد…
أما الرجالُ وهم الأقدر على كتم خوفهم والصبر والقهر بادٍ على مُحيّاهم يختزنون آلاف الأفكار والاحتمالات في عقولهم المنهكة.
ثلاثةُ أصواتٍ تختزلُ القصة كاملةً، صوت الطيران الحربي يتصدّرُ الموقفَ كأنّه وحشٌ يزأر من فوق السماء ثم تدوي صافرات الإنذار بصوتها المرتجف فيخيّم الخوف والتوتر على كل شيء، لحظات حتى تنطلق أصوات سيارات الإسعاف وتنهي القضية معلنةً موت العشرات وإصابة الكثيرين ونجاة أسطورية لمن له عمر طويل حتى لو كان تحت الحُطام والرُكام.
حالةٌ اعتاد الناس عليها في هذه المدينة المُنهكة الصابرة تشبه فترة البرزخ الدنيوي لأجلٍ غير مسمى!! حيث يعيش الأشخاص فيه حالة الوسط بين الحياة والموت فلا هم قضوا أجلهم وارتاحوا من أهوال القصف والحرب، ولاهم عاشوا حياتهم ونعموا بالأمن والسكينة، وهي حقهم الطبيعي الذي حباهم الله إياه.
كل شيء مرهون بالهدنة، إن خُرقت عدنا للموت المتوقع بين اللحظة والأخرى، وإنْ طالَ عمرها عاد الناس لتنفُس الصُعداء فيتّكئون على جراحهم للوقوف من جديد ومتابعة ما بقي من أعمارهم.
توقّعُ الأحداث بات أمرًا سهلًا حتى عند صغار السن، فالطفل هنا يستطيع سرد هذه الوقائع بمنطقيةٍ أكثر من أيّ مُحللٍ سياسي يطل بوجهٍ بشوشٍ من وراء الشاشات متلعثمًا بالحروف والكلمات ليشرح للعالم ما الذي حدث؟!
وشتان ما بين هذا المراسل الصغير الذي يُوافينا بأدقِّ التفاصيل وهو أشعث أغبر من أرض الحدث! وبين ذاك الخبير الذي يحصل على معلوماته عبر الفضاء الإلكتروني معطرةً كي لا تُنهكه رائحة البارود المُنبعثة من فوهة الكلمات.
عذرًا أيها القارئ لا جديد في القضية، سوى المزيد من الصور المأساوية التي تتناقلها وسائل الإعلام لتثري مادتها وتصنع من الحدث خبرًا ومن الخبر سبقاً صحفياً يُكافَأ عليه الصحفي المجتهد…
وللحدث بقية….