منيرة حمزة |
هل أصبح 21 من شهر آذار ذكرى مؤلمة لكثير من الأمهات السوريات بعد أن كان مناسبة عيد وفرح تجمع الأم بأولادها فتقر عينها برؤيتهم أمامها سالمين، أو تسمع صوتهم عبر وسائل الاتصال المتنوعة التي باتت حبل السرة الذي يصل الولد بأمه بعد أن فرقهم الواقع الحقيقي وجمعهم العالم الافتراضي؟!
نعم.. يبدو أن واقع الحال جعل الكثيرات من الأمهات يعدمنَ السبل لرؤية أولادهنَّ والتواصل معهم، فيلجؤون إلى الله بالدعاء والبكاء، ويقتاتون على الصبر والحكايا.
وهذا ما تفعله “أم صابر” منذ ست سنوات بعدما كانت كل نساء الحي تغبطها، فهي ” أم الصبيان” كما كانوا يلقبونها، وأصبحت فيما بعد أمَّ الشهداء..
” أم صابر” فقدت أولادها الستة في أتون الحرب المشتعلة منذ ثماني سنوات، بعدما أمضت ثلاثين عاماً تُنجب وتربي، ليرتقوا جميعهم في يوم واحد شهداء بإذن ربهم!
تراها في كل يوم، ومنذ ست سنوات، تجلس أمام منزلها وتجمع أطفال الحي حولها، تقص عليهم القصص وتروي لهم الحكايا، وتطعمهم الحلوة وتقول: “ترحموا على أولادي.”
يا إلهي ما هذه الذاكرة الرقمية التي تملكها في عقلها، إنها لا تنسى أدق التفاصيل ولا أصغرها، حتى إنها تروى الحادثة بتاريخها الدقيق باليوم والشهر والساعة بوجه باسمٍ وقلب لا يملك إلا الصبر، واليقين بوجوب اللقاء بأولادها في الدار الأخرى.
فقدت “أم صابر” جميع أولادها عندما ذهبوا إلى صلاة الجمعة في المسجد الكبير في بلدتهم رنكوس في ريف دمشق، كان ذلك في جمعة 27 أيلول من عام 2013، ومات معهم أكثر من 200 شخص آنذاك في تفجير سيارة مفخخة رُكنت جانب المسجد وتفجرت عندما امتلأت المنطقة بالمصلين، فارتجت البيوت وتكسرت النوافذ الزجاجية، وعلت أصوات التكبير والصراخ، وهرع الناس لينقذوا البقية، ولكن لا وجود إلا لجثث متفحمة ووجوه شوهتها النيران، ولم ينجو آنذاك إلا القليل ممَّن لم ينقضِ عمرهم بعد.
“أم صابر “فقدت في تلك الجمعة السوداء أولادها الستة عندما ذهبوا إلى الصلاة ملبين نداء “الله أكبر، حي على الفلاح” ولم يُدركوا أنهم سيؤدون صلاتهم الأخيرة.
حينها ذهبوا طالبين الرضى من أمهم التي انهالت عليهم بالدعاء والرضى..
لكنهم لم يعودوا ولم يبقَ لها إلا ذكراهم وأسماءهم المُتشابهة وثيابهم المعطرة، التي تُصر دوماً في كل عيد على غسلها وكوائها ونثرها في غرفتها لتشبع من رائحتهم، وتحتفل بهم بقلبها المنفطر..
المصاب كبير يا أم الشهداء، لم يعد أحد يدعوها باسمها، لقد أصبحت أم الشهداء، بعد أن كانت أم الصبيان!
ومع ذلك، تحمد الله أنهم ماتوا أمام عينيها ولم يذوقوا طعم الاعتقال في سجون النظام، لكثرة ما سمعت عن قصص العذاب التي يرويها الناس عن المعتقلين.
فكثيرات من أمهات المعتقلين يبكون مراراً وقهراً على أولادهنَّ في السجون، يتمنون الموت لهم ليرتاحوا من العذاب.
“أم صابر” واحدة من آلاف النساء السوريات المكلومات، اللواتي تجرعنَ مرارة الفقد، وتحلينَ بالصبر الجميل ونهضنَ من جديد ليكملوا مسيرتهنَّ.
لم تعد الخنساء مجرد أسطورة تاريخية ورمزاً للتضحية والفداء، بل أصبحت حقيقة مجسدة في الأمهات السوريات.
ولم تنتهِ معاناتها هنا، بل كانت الغربة غصة في قلوب النساء اللائي أُجبرنَ على التهجير القسري داخل سورية، فتهجرت وتغربت وكثيرات من سكن الخيام تاركات ورائهنَّ بيتاً ووطناً وأرشيفاً من الذكريات.
وبذاك حازت المرأة السورية كلّ الألقاب، فكانت أم الشهيد وأم المعتقل وأم المهجر وأم المغترب وأم اليتم، فكل عام وأنتنَ أجمل الأمهات.