التاريخ لا يحمل الحقائق، ربَّما هذه هي الحقيقة الوحيدة
إنَّه يُكتب دائماً بالطريقة المفرحة، والملهمة، والمليئة بالأساطير والبطولات التي تجعل منه شيئاً يصعُب تكراره، لأنَّه يحوي قدراً من المثالية المستحيلة، أو لأنَّه لم يكتب بتلك التفاصيل التي تُظهر كلَّ شيء، وتُبيِّن أين أخطأ الأبطال التاريخيون وأين أصابوا، لأنَّهم غالباً بحسب الحكايات لا يخطئون.
إنَّ التاريخ – للأسف – يكتب في الغالب بطريقة تحترم العواطف وتُقدِّر المشاعر أكثر من مراعاة العقل والمنهجيات الفكرية (التي تُؤَمِّن إعادة صناعة التجربة ضمن ظروفها الجديدة، لتحقق النجاح مرةً أخرى)، ويكتفي بالشعور بالبطولة وتقديسها، والاستلهام منها ضمن ظروف مثالية معقدة.
إنَّ التاريخ يُعاني من ظُلم كُتَّابه إلى اليوم، فالكثير ممَّا نمرُّ به نرفض أن نذكر عنه الحقيقة الكاملة، ونكتفي بذكر ما يريح ضمائرنا ويشعرنا بالإنجاز، ونتجاوز عن أخطائنا لتبقى الصورة المثالية مرسومة للأجيال القادمة، وحالة الضياع مستمرة .. في بحثها عن المثالية وعدم إدراك الصورة الكاملة، والعجز عن صناعة التجربة، بينما تبقى الإشارة إلى الواقع بكلِّ شجاعة بغية فهمه وعدم خداع الأجيال القادمة جريمةً وإرجافاً وجلداً للذات، خاصةً عندما تتحدث عن المعارك والخسارات التي تشبه حلب.
إذا لم تكن أنت شجاعاً بما يكفي لحكاية الحقيقة القاسية، فغالباً لن يفعلها أحدٌ من بعدك، فلا تؤجل ذلك، فالموتى يحتفظون بقدسية خاصة تجعلهم أبطالاً، وتبرع الأجيال الجديدة في نسج الأساطير التي تقول: إنَّهم يمتلكون أجداداً عظماء، فلا بدَّ أن تتحدث عن محاسن الموتى فقط، في ثقافتنا المليئة بالاقتباسات المنقوصة.
حلب معركة أسطورية بعيداً عن التفاصيل .. لكن الخوض في التفاصيل يرينا عَوَرَنا الذي نتحاشاه دوماً، وما زلنا نحب أن نشعر بذلك الإنجاز الذي يوازي ما خسرناه فيصيبنا الرضا، هذا الرضا الذي سيودي بنا إلى عالم الحكايات التي سنحكيها لأبنائنا “كم كنَّا ابطالاً!” بدلاً من أن نهديهم عملاً يستطيعون إكماله.
ليست العدالة بتجميل الواقع بدعوى الحفاظ على المعنويات، وربَّما هو الواقع قاسٍ هكذا … ومؤلم أيضاً، لكن علينا أن نراه ونكتبه لمن بعدنا بصدق، لكي نستطيع تغييره، أمَّا أن نتجاوزه فقط لنحافظ على معنوياتنا، فلن ننجو، وسيتابع اللحاق بنا يا صديقي وسيوقعنا مراراً …
علينا أن نختار المواجهة .. الحقيقة قاسية
المدير العام | أحمد وديع العبسي