“يا الله ريحة الدنيا ما أحلاها” بهذه الكلمات استقبلت إحدى المعتقلات في سجون النظام زميلتهم الجديدة فاديا الأم لثلاثة أطفال التي تعمل مدربة لقيادة السيارات في العاصمة دمشق. تروي فاديا “لصحيفه حبر” قصة معاناتها في سجون النظام قائلة: “اعتقلت مدة ٦٢ يوماً في فرع الدوريات في القزاز، بتهم متنوعة وجاهزة كخطف ضباط، ووجود عمي المعارض منذ الثمانينات الذي يعمل ضد النظام، وانشقاق أخي من الجيش، هذه التهم سيقت لي من شخص يعمل في الأمن العسكري “أبو حسن” يقيم في الحي الذي أقطنه.”
المهجع: تَصفُ فاديا: “كان المهجع ضيقًا جداً وعدد السجينات كبير كأننا داخل قبر جماعي ورائحة العفن قاتلة، كدت اختنق منذ وصلت لكن بمواسات باقي السجينات صمدت وتحملت، ولحسن حظي كان هناك شخص وكَّلته عائلتي ليحاول إخراجي من السجن وكيلا أتعرض للتعذيب وذلك مقابل دفع المال لفرع الأمن.”
التحقيق: “بعد ١٥يوماً طُلبت للتحقيق لدى المحقق محمود الذي كان قاسي النظرات وسيء اللسان، وخلال تحقيقه معي دخل رئيس المحققين وقال: (دير بالك على فاديا)
قال هذه الكلمات وخرج، وهنا انتهى التحقيق معي، سألت نفسي: هل قال ذلك بسبب المال (الرشوة) أم أنه عادل لا يحب الظلم؟! أعادني المحقق بعدها إلى المهجع ووقف الجميع تأهباً لحضوره إلا امرأة عجوز اسمها أم علي تعمل بمشفى ميداني بلغت الستين حاولت النهوض فخذلتها قدماها، وبعد أن ضربها ذاك المحقق المتعجرف قال: صحيح أنا سني وماني علوي بس يلي بقرب على الأسد بحرقه.
خلال التحقيقات التالية نفيت كل التهم الموجهة إلي، فغضب المحقق وأمر بربطي على الكرسي وبدأ يخيفني بالكهرباء حتى أعترف بشيء لم أفعله، وبإصراري على أقوالي تركني وذهب.”
فرع فلسطين “ذات يوم في الصباح نادوا باسمي كي أجهز نفسي، فكانت السعادة تملأ روحي ظناً مني أني سأخرج من هذا الجحيم ولم أتوقع أن أُنقل إلى جحيم أعظم إلى (فرع فلسطين) فانهارت الآمال عندما رأيت على أحد الجدران (الداخل مفقود والخارج مولود) كان الفرع معتمًا مكتظاً ضيقًا ذا دهاليز وأقبية تمتد بأدراج تحت الأرض، روائح العفن النتنة تزكم الأنوف، استرقت النظر فشاهدت سجناء عاريي الملابس يقال عنهم «السخرة» وأشخاص يعذبون ويصرخون وهم مشبوحون وساحات كبيرة من التعذيب، إنها جهنم! فقدت اتزاني من هذه المناظر المروعة كأنه يوم الحساب، وعلى صرخات العسكري: “عيونك بالأرض” عدت إلى صوابي فكدت أسقط أرضاً، فاقترب عسكري مني وسألني عن اسمي؟ فأجبته، هزَّ رأسه وهمس بأذني: اطمئني لا تخافي واثبتي، كانت كلماته كالسكينة على روحي فعاد إلي توازني وصمودي.
بعد تفتيشي أُدخلت إلى مهجع بطول متر ونص وعرض مثله، كان مكتظاً بالمعتقلات، في أعلاه كاميرا للمرقابة، لا فتحة فيه تُدخل الهواء إلينا فكنا نشعر باختناق شديد، الضوء دائمًا مشتعل، أما عن النوم “مسايفة” كأقلام في محفظة نرتب أنفسنا للنوم، والطعام عبارة عن رغيف خبز يابس وحبة بطاطا مع كأس شاي بـالكافور الذي يقطع الرغبة الجنسية ويضعف الذاكرة، كان لنا (دست) للوضوء والتبول، ويسمح كل عشرة أيام لواحدة منا أن تستحم، أما إن مرضت إحدانا فتعطى لها حبة مجهولة لجميع الأمراض، كنا نرتاح بتناولها ونطلبها بإصرار حتى نحصل عليها، كان الزمن يمرُّ بطيئاً كسلحفاة، حاداً كسكين، مولياً ظهره كلئيم، قمت لأصلي وأخفف من غلواء الزمن لأرتاح بين يدي ربِّ كل هذه الأشياء لأذوب في ملكوته، أغمضت عيني ورحت أقرأ بعمق ما يطمئن قلبي به ويهدِّئ ثائرة نفسي.
بعد ثلاثة أيام طلبت للتحقيق فأجهشوا المعتقلات بالبكاء؛ لأن الأغلبية مرَّت عليهنَّ سنين وشهور ولا أحد منهنَّ طُلب للتحقيق، كنَّ يتمنين حتى إعدامهن للخلاص من ذاك الجحيم.
وصلت ساحة التحقيق وبدأت التحقيقات مع سجناء غيري، عصبُوا عيناي وتركوا لي إمكانية رؤية العذاب من حولي، كان صوت صراخهم وآلامهم ضغطًا عليَّ لأخاف واعترف، بدأ التحقيق بعبارة: “إذا بتكذبي بحرقك حرق” ما علاقتك بالمسلحين؟ نفيت كل التهم من جديد بعد أن كررها المحقق ثلاث مرات عليَّ فصمتَ قليلاْ وقال: ألم تشتاقي لأطفالك؟ فسالت دموعي بلا وعي، فاستغل وضعي لاعترف، فأقسمت أن كل التهم افتراء، فنقلت إلى غرفة أخرى فيها عساكر طوال القامة لونهم أشقر، ظننت نفسي في دولة أخرى من أشكالهم الغريبة لم أعرف جنسيتهم، صوروني ووضعوا لي رقمًا وأعادوني إلى المهجع.
حينما يُعذب المعتقلون يخيروا بأدوات التعذيب التي عرفت منها: (البوري الأخضر الإبراهيمي، والبوري الأسود أوباما) بالإضافة إلى الكهرباء والشبْح..
دخل السجان وأمرني أن أوضب أغراضي بعد ١٦ يوماً داخل هذا الجحيم، فهرع الجميع لتوديعي وأعطوني أرقام عائلتهم لأطمئنهم عنهم، أخرجني السجان وأخبرني أن أتخلص من جميع الأرقام والأوراق التي بحوزتي وإلا عدت إلى ذاك الجحيم، فبكيت حزناً وأنا أتخلص من تلك الأرقام المحملة بالأماني، ودعوت الله أن يسامحني وأنا أحاول حفظ بعضها، وبعد تفتيشي حُوِّلت إلى القضاء العسكري، الذي لم يكن القاضي موجودًا فيه لمحاكمتي، فحولت إلى مخفر كفر سوسة «إيداع».”
مخفر كفر سوسة وسجن عدرا والخروج “مضى عليَّ ستة أيام في مخفر كفر سوسة أُخرج خلالها جميع السجينات وبقيت وحيدة في الظلام، كاد قلبي يتوقف خوفاً، وعلى صوت سجينات جديدات توقفت عن البكاء والتقيت بإحدى السجينات التي كانت معي في فرع “الدوريات” لتكمل معي مسيرة الآلام، وفي اليوم السابع اقتدت إلى سجن “عدرا” المكتظ بالسجينات الواسع الكبير، رأيت بعضهم من تأقلم على العيش والآخر فقد عقله وآخرين انطوائيين، التقيت فيه بممثلتين تهمتهما إرهاب هما (ملك سكر، ليلى عوض) كان يتوفر لنا كل ما نحتاجه لكن مقابل المال،
ولأول مرة سُمح لي برؤية أطفالي، كاد قلبي يطير فرحا ًلرؤيتهم، كدت أخلع قضبان السجن التي تبعدني عنهم، وبعد صراخ وبكاء سمح لي بمعانقتهم للحظات.
وفي اليوم ٢٧ لي هناك طلبني القاضي للمحاكمة وشاهدت محامية وعدتني أن تساعدني بتوكيل من عائلتي، دخلت إلى القاضي وسألني: هل كنتِ تمولين الإرهاب؟ هل اختطفتي ضباطًا؟ هل قتلتي عساكر؟ نفيت كل التهم كعادتي، فقال: اذهبي إفراج، كاد يغمى عليَّ من شدة الفرحة لم أصدق ما سمعت، ذهبت إلى السجن وودعت الجميع وأعطيتهم كل أغراضي وكل ما أملك وخرجت كطائر خرج ليس من قفص بل من جهنم نفسها.
نظرت إلى السماء وفعلاً كانت رائحة الدنيا رائعة “ما أحلاها” رؤية دمشق التي تنعم بالهدوء من فوقنا ونحن في أعماقها نذوق أهوالاً من التعذيب في دهاليز وسراديب لا يعرف أحد مبتدأها ولا منتهاها.