نور القدور |
كنت أقضي معظم أوقاتي متسكعًا بين صفحات مواقع التواصل الاجتماعي هاربًا من الواقع المرير، لم يخطر ببالي يومًا أني سأرتطم بنعوة يُتمي على إحدى تلك المواقع.
كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، سئمت التحديق بسقف غرفتي المتصدع، شعور طبيعي لشخص قرر حبس نفسه في منزله خوفًا من الاعتقال.
كانت أصوات قهقهة أفراد حاجز الجيش تحت منزلنا تتعالى، كنت قد أغلقت هاتفي لاحتفظ بقليل من الشحن للنهار التالي، فالكهرباء كانت حلمًا ورديًا بالنسبة إلينا، إلى أن قررت تصفح حسابي على الفيسبوك لتمضية بعض الوقت، فظهرت أمامي مجموعة من صور معتقلين لقوا حتفهم تحت التعذيب.
استوقفتني صورة رجل مسن فأعدت النظر إليها مرارًا وتكرارًا، ذاك الهدوء الذي يسود ملامحه التي دخلت في ثبات عميق تشبه وجهًا اعتدت إيقاظه كل صباح ليذهب إلى وظيفته، ولكن التعذيب طمس معالمه، كان متورمًا لدرجة أني لم أتمكن من التعرف عليه، نعم لم أستطع التعرف على وجه من ورثت لون عينيه ووساعة جبهته وطول قامته.
أهذا أنت أبي؟ ماذا حل بك يا أبا غيث؟ أين ضمُر خضار الجنان في مقلتيك؟ وما تلك الانتفاخات الجاثمة فوق شفتيك؟ ولِمَ اشتعل ذقنك بالشيب والتراب هكذا؟ ماذا حل ببدلة عملك السوداء المرتبة التي رأيتك بها آخر مرة؟ عد فعطرك الذي تعطرت به ذاك الصباح مايزال يبحث عن رائحة جسدك في زوايا البيت.
لِمَ وضعوا رأسك على الأرض هكذا؟! وبماذا كنت تفكر عندما ارتطمت آخر نبضات عروق يديك بتلك الأرض الجاحدة؟! وما هذه الأرقام على جبينك؟ أرقام ماذا تلك؟!
ماذا سأقول للمقعد الفارغ بجانبي على مدرج الملعب حين كنا نحضر المباريات سويًا؟ ماذا سأقول لابني يومًا إذا سألني عن مرقد جده؟
أعلم أن الموت حق يا أبتي، ولكني وددت لو اشتريت لك كفنًا معطرًا أبيضَ كقلبك، وغسلت لك ذرات التراب العالقة على جبهتك الواسعة، ونصبت لك بيت عزاء، وددت لو أني عرفت أين مثواك لأزوره وأعتصر حجارته كلما ضاقت بي دنياي وغلبني الشوق لمبسمك.
كل هذه التساؤلات والأفكار دارت في ذهني وأنا محدق في صورته التي حصلت على عشرات الإعجابات (اللايكات)، كانت طريقة معرفتي بموته هي الصدمة الكبرى بالنسبة إلي، فقد توقعت أن أسمع خبرًا يؤكد وفاته بأي لحظة بعد اعتقال دام لأكثر من سنتين والتواصل مع الكثير من الضباط الذين سلبونا كل ما نملك للحصول على أخبار بشأنه أو حتى معرفة سبب اعتقاله، وجاريناهم بالرغم من فقداننا لبيتنا في (بابا عمرو) وفصل أبي من وظيفته بعد اعتقاله بأسبوع، كنا نعلم أنهم تجار حروب و نعلم أن أبي لم يقترف أي ذنب فقد كان من جماعة “بمشي الحيط الحيط وبقول يا ربي السترة “.
وقاطعت أمي جميع أفكاري تلك بصوتها: “سأنزل إلى السوق باكرًا، هل أجلب لك شيئًا؟” وددت أن أخبرها بأنك من المفترض أن تبدئي العدة منذ اليوم، فقد مات زوجك في غياهب السجون، ولكني فضلت الصمت ريثما أحصل على طريقة أقنعها بأن طيف أبي الذي يزورها كل يوم باسمًا واعدًا بعودته قريبًا مجرد أضغاث أحلام.
ورغم إخباري لهم بما رأيت فقد أصرت أمي على أن زوجها بخير وستبقى في البيت إلى أن يطرق الباب، وتابعت مسيرتها لتكون أبًا وأمًا لنا، فتخرجت وأخي وأصبحنا مهندسين وحققت أختي الصغيرة آخر أحلام أبي ونجحت بالشهادة الثانوية بمجموع يخولها الدخول إلى كلية الطب.
استرجعت كل هذه الذكريات وأنا في طريقي لأطلب يد الفتاة التي تعرفت عليها وأحببتها بعد أن خرجت من حمص باتجاه محافظة إدلب بثمن إسوارة أمي الذهب التي لم يتبقَ لديها سواها فعلقنا عليها كل مشاريعنا المستقبلية، لم أكن أعرف عن تلك الفتاة سوى صورتها، صورة غيرت أقداري تمامًا كواقع صورة أبي على حياتي، فصورة أورثتني يتمًا وأخرى أورثتني حياةً.