جاد الغيث
ليلة البارحة كان القمر بدراً ثلجياً صافياً، وكان من الممكن قراءة كتاب على ضوئه، لكنني لم أفعل، بل رحت أسأل القمر وأكلمه كأنَّه صديق يعرفني منذ أمدٍ بعيدٍ، حيث إنَّني لا صديق مقرب لدي في الفترة الراهنة، لذلك ازداد تأملي للسماء، وزاد بوحي لها بأشياء وأشياء.
قبل ساعة كنت قد شاهدت تقريراً تلفزيونياً عن التعذيب والإعدامات الجماعية في سجن صيدنايا، تلك الرقعة الأسوأ على وجه الأرض في سورية، لم أكن أتخيل أبداً تلك الوحشية والقسوة، وأكثر ما زاد في استغرابي خروج بعض المعتقلين أحياء، وقلت في نفسي: لا بدَّ أنَّهم يمتلكون أجساماً فولاذية وقلوباً مليئة بالإيمان، بالمقابل مات الآلاف من المعتقلين تحت التعذيب أو بسبب البرد وقلة الطعام، أولئك كانت أجسادهم ضعيفة، ونفوسهم بلا شك رقيقة لا تألف العذاب، فغادرت إلى السماء تاركة الألم والقهر لمن تبقى!
نظرت إلى القمر وسألته إن كان يطلُّ فوق سجن صيدنايا، وهل يمكن للمعتقلين رؤيته ولو من زاوية ضيقة؟ جاءني الردُّ رمزياً، فقد مرَّت غيمة صغيرة حجبت ضوء القمر.
كان اشتياقي لأمي قد جرح قلبي، فأنا لم أرها منذ أربع سنوات، وزاد حنيني إليها بعد أن استمعت إلى حديث أحد الناجين من صيدنايا عن نوع جديد من عذاب الروح، حين سمحوا لأمه بزيارته لمدة خمس دقائق فقط، وقبل الزيارة أجلسوه في غرفة مكدَّسة بأجساد الشهداء من زملائه، وبعد الزيارة كان لا بدَّ من ضربه بالعصي حتى فقد وعيه، لقد كان عذابا للروح وللجسد معا!
يضاف إلى ذلك ذكريات سوداء تلاحقني دائماً بعد خروجنا من حلب الشرقية، ومئات الصور المؤلمة كل يوم تظهر فجأة في مخيلتي، تشوه رغبتي الملحة في صيد لحظات من السلام والهدوء النفسي.
كان هناك سؤال مُلحٌّ يقرع رأسي بعنف، هل كنَّا على صواب يوم بدأنا بثورتنا؟
ما زال القمر بهياً والليلة دافئة إلى حدٍّ ما، لكن كيف ننعم بجمال الطبيعة وتأمل السماء وما يزال القصف مستمراً رغم تثبيت وقف إطلاق النار، والأيتام في ازدياد، والمعتقلون في عذاب، وما زالت الأمهات باكيات حائرات، وما تزال في السجون الكثير من المعتقلات مع أولادهنَّ الصغار لا يعرفون من الدنيا سوى أربعة جدران سوداء، وظلم، وقهر، وبرد، واعتداء.
ما يزال القلب يبكي والروح تشتاق للحرية، فكيف نقول لا لثورتنا وقد أطلقت من صدورنا ملايين الآهات المخنوقة، وحررتنا من قيود ذل لبسناها لسنوات وسنوات؟!
وإذا وافقنا من لا ضمير لهم على مقولتهم: “الثورة دمَّرت البلد” فإنَّ سجون الأسد وحتَّى قبل الثورة قد دمَّرت الإنسان قلباً وقالباً، روحاً وجسداً.
من كان يمتلك ذرة واحدة فقط من إنسانية وضمير، فإنَّه سيقوم بألف ألف ثورة من أجل معتقل واحد فقط.
معتقل واحد فقط سيفرج عنه يوماً ما لتغدو الحياة بالنسبة إليه كابوساً مرعباً؛ فرائحة الدم والموت لن تغادره، وصوت قرع الباب أو خشخشة المفاتيح ستقتلع قلبه، وصور التعذيب تسبح في رأسه في كلِّ اتجاه.
أيُّها الذين تنعمون بنعمة الحرية، لو كنتم في خيم اللجوء أو مقعدين على الكراسي المتحركة، لو كنتم بلا عمل ولا مأوى، لو كنتم لم تروا أمهاتكم منذ سنوات، انظروا عالياً إلى السماء حين يكون القمر بدراً صافياً واسألوه: هل يطلُّ على المعتقلين؟ وهل يرونه كما ترونه أنتم؟
فإن احتجب القمر وراء غيمة عابرة فاعلموا أنَّه يبكي وينتحب حزناً على المعتقلين، أمَّا نحن فما نزال يقتل بعضنا بعضاً، ونبكي دموعاً من حجر!