فراس الخليفة |
فُجعت عندما شاهدت عددًا كبيرًا من صور الشهداء الأسرى وقد فُقئت أعينهم، لم يكن لدي أي معتقل من الدرجة الأولى عند نظام الأسد المجرم، ولله الحمد، لكن بعد تصفح عدد أكبر من الصور كان لابد لكل عائلة من نكبة تطالها وإجرام يلحق بها، أولهم ابن خالتي الذي قبضت عليه قوات النظام في دمشق دون أي تهمة، وانقطعت أخباره منذ مدة طويلة لنكتشف الفاجعة التي لم نصدقها فيما مضى، واليوم بعد انتشار كامل أرشيف الشهداء وجدنا صورته من بين الضحايا الذين وثقهم (قيصر) الاسم الحركي للضابط المنشق عن النظام، بعدسة كاميرته التي كانت تسجل وجوه وأجساد من تم تصفيتهم في سجون النظام المجرم بالشكل والرقم فقط.
قيصر وثَّق تاريخ عصابة مجرمة أوغلت في دماء السوريين، قصفًا وقتلًا وتشريدًا، فكان نصيبه تسجيل تاريخ سجون انتثرت منها روائح الموت عبر صور رجال وأطفال ونساء ذاقوا أبشع أنواع العذاب قبل أن تفيض روحهم إلى خالقها .
من أشد ما لفت انتباهي في الصور هو العدد الكبير من الشهداء الذين تم اقتلاع أعينهم وفقئها بشكل وحشي، ليتم تمويه هذا التشوه بواسطة برامج تعديل الصور لتراعى مشاعر مشاهديها، كم عانى هؤلاء الأسرى من العذاب عندما تم اقتلاع أعينهم وهم على قيد الحياة وربما كان الألم كفيلاً بقتلهم.
كان الشحوب والضعف والتشوه في بعض الوجوه نتيجة شدة التعذيب، فمنهم من كُسر فكه ومنهم من طُحن أنفه وكثير منهم من هُشمت أسنانه وبطريقة وحشية، لتبقى أجزاء من تلك الأسنان شاهدة على إجرام لا محدود يعدُّ جسد الإنسان كأنه دمية بلا روح، ويُنزل بها أشد أنواع الضرب والسلخ والانحراف البشري.
تلك الأفعال كانت ردة فعل على كل من طالب بشيء من حقه في الحرية أو نطق بلفظها أو فكر بها، وبعضهم كان لا علاقة له بشيء من هذا القبيل، ولكن شاء قدر الله أن يرميه بين أيدي أظلم البشر، ليكون عبرة لغيره، فيقول لهم الجلاد: ” كن ابن من شئت، فالمصير واحد، وغرفة الشبح والتعذيب لكل من يعيش في حظيرة البعث”.
منذ نَشرِ جميع الصور بعد إقرار قانون قيصر 17 حزيران 2020 ، تتوالى مآسي السوريين، أخ عثر على أخيه ولكن في صورة فقط، وزوجة تعرّفت على صورة زوجها بصعوبة بعد تغيّر ملامحه، أمٌ انفطر قلبها لمّا لمحت صورة ابنها الذي لم يبلغ سِوى 14 ربيعًا، طفل! نعم إنه طفل، ما ذنب طفولته كي يلاقي هذا المصير وبهذه الطريقة.
ذقت شيئًا من آلامهم ولكن أقلّها، آلمني أكثر السيدة التي فقدت زوجها وأخيها وعمها وشاهدت صورهم دفعة واحدة، والأب الذي شاهد صورة ابنه وابن أخيه.
خمس وخمسون ألف صورة تحكي قصص إحدى عشرة ألف عائلة ، بعضهم يبكي وينوح وبعضهم برد قلبه لأنه عرف مصير حبيب كان مختفٍ بشكل سري، بعضهم سرح بخياله ولم يعد بعد؛ لأنه كان يعيش على بارقة أمل وبصيص نور أن يعود فقيده في يوم من الأيام.
إنه ماضي مستقبل السوريين وحاضرهم، عايشوا فيه أعتى أنظمة القهر والإجرام، من مجازر حماة في القرن الفائت إلى مجازر البيضا وبانياس والحولة والغوطة ومعرة النعمان وإدلب في القرن الحادي والعشرين، قرنٌ كان التشدق فيه بحقوق الإنسان وحفظها من أكبر أكاذيب العالم ووصمة عار على جبين الإنسانية التي تركت ملايين السوريين يكابدون الموت في السجون وتحت حمم طائرات الأسد وروسيا دون أي رادع أخلاقي أو حتى بشري.
بعد هذا الحجم من المأساة والألم، كيف يمكن تصور مستقبل سورية بوجود هذا الكم الكبير من المجرمين؟ وهل سيُنصفُ القانون الأمريكي الذي سمي باسم بطله (قيصر) في استعادة حق المظلومين الذين قتلوا تحت أيدي الجلادين، ومن خلفهم أبناء وآباء وإخوان وأزواج ينتظرونهم، وبعد أن غابوا ينتظرون أن يعود لهم شيء من الحق الذي سُلب منهم، رغم أني أجزم بخلاف ذلك، فلا يوجد قانون في الدنيا يُرجع حق أم بفقد ابنها سِوى أن يعود حيًا من جديد.