“العلم في الصغر كالنقش على الحجر، والعلم في الكبر كوخز الإبر” بالرغم من ذلك فإن نساء سورية خلال سنوات الحرب بتنَ مدرسة تنمّيها روح الإصرار والإرادة خاصة من تخطت منهنَّ سنَ 40 عامًا، حتى لو عشنَ تناقضات وواجهنَ صعوبات إلا أنَّ الأسباب الدافعة لهنَّ نحو التعلّم تغلّبت، وكثيرات منهنَّ كنَّ قدوةً لبيئتهنَّ المحيطة داخل وخارج المنزل. وقد قابلنا عدداً منهم في مدينة إدلب.
(أم محمد، 44 عامًا) لديها ثلاثة أولاد أكبرهم ترك دراسته منذ الصف السابع ليعود مؤخرًا إلى مقاعد الدراسة ويستعد لتقديم شهادة التعليم الأساسية، تقول: “نعيش بتناقض كبير أنا وأطفالي، فأنا أواظب منذ سنتين حتى الآن على الالتحاق بدورات تعليمية وثقافية وغيرها إلى جانب عملي خارج المنزل، وأطفالي يبتعدون عن دراستهم رغم أنَّهم يمارسونها بعمرهم الطبيعي من غير ضغوطات كما هو حالي”.
وليس ببعيد عن أم محمد ووضعها، فهنالك أمثلة كثيرة حول نساء لجأنَ إلى استعادة تعلّمهنَّ حتى لو داخل الجامعات بعدما أجبرتهنَّ ظروفهنَّ سابقًا على التخلي عنها، متناسين الفروق العمرية بين زميلاتهنَّ وأعينهنَّ فقط تنظر نحو الهدف الذ وضعنه نصب أعينهنَّ.
وخير مثال (أم عبد العزيز 42)، حصلت على الشهادة الأساسية قبل الثورة السورية، وعند اندلاعها نالت على الشهادة الثانوية بعد زواجها، لتتوقف مجددّا عن المرحلة الجامعية؛ لأنَّ الفرع الذي تحبه خارج مدينة إدلب، وكونها متزوجة لا يمكنها تحمل مشقات السفر، إلى أن خرجت محافظة إدلب عن سيطرة نظام الأسد وتم افتتاح فرع اللغة الفرنسية بجامعة إدلب، وسرعان ما سجلت فيه وهي ستترفع فيه هذا العام إلى السنة الثالثة.
تتحدث عن أنَّ ما دفعها للدخول إلى الجامعة أولًا هو رغبتها بدراسة الفرع الذي أحبته منذ سنين، والذي وجدت نفسها يومًا ما عاجزةً عن تعليمه لأطفالها، وثانيًا وقوف زوجها بجانبها وتشجيعها بعث لها الراحة النفسية والحافز القوي لتحقيق طموحها رغم صعوبة التعلم بهذا السن.
وأكدت مشرفة المكتب الثقافي للإناث بجامعة إدلب “شروق سلات” أنَّ عددا لا بأس به من النساء اللواتي تخطينَ سنَّ الأربعين ما زلنَ يتابعن تحصيلهنَّ الجامعي، ويترددنَ على معارض الكتب والندوات الثقافية التي يقيمها مكتب الطلبة بكل حماس كبقية زميلاتهنَّ.
تحديات جمة تخطتها نساء الفئة العمرية المتقدمة في التحصيل العلمي، ذلك لأنَّهنَّ امتلكنَ بكسب المعرفة متجاوزات العادات البالية والقواعد العامة التي تقرُّ بأنَّ المرأة بعد سنِّ الأربعين تصبح مُسَخرة لمنزلها وعائلتها فقط، فقد حولنَ تلك النظرة إلى نقطة مديح لهنَّ عندما وفَّقنَ بين حياتهنَّ الشخصية والعملية.
في هذا السياق أوضحت (سعاد الرميحي 47 عام) أم لخمسة أطفال أنَّ حبها للتعلم بشكل مستمر وشعورها بالمتعة عند تلقيها معلومات جديدة جعلها تتأقلم مع أكبر صعوبة اعترضتها ألا وهي شعورها بالذنب تجاه طفلها الأصغر عندما تضطر لتركه في المنزل وحيدًا ولا تبقى معه؛ للخروج من أجل حضور دورات تعليمية أو مهنية تخص تمكين المرأة.
وأضافت بأنَّ صعوبات التعلم لا بدَّ منها، لكنَّها لم تؤثر عليها سلبًا، على العكس تمامًا كونها تكتب الخواطر والشعر وتتصف بالهدوء، باستثناء بعض العراقيل عند استخدامها الحاسوب، فهي تسعى حاليًا جاهدة لاجتيازها عبر انتسابها لدورات تتعلّم فيها قيادة الحاسوب بإتقان.
لم يقتصر الأمر على الفائدة الشخصية التي تجنيها النساء اللواتي تخطينَ الأربعين من العمر حينما أقبلنَ على التعلم وزيادة ثقافتهنَّ، إنَّما عمَّت المنفعة جميع من حولهنَّ وكنَّ شعلة متقدة تنير درب الكثيرين، وهذا ما جسدته (أم مازن 52 عامًا) من مدينة إدلب.
تقول لصحيفة حبر: “لم أكمل دراستي، لكن لا أحبُّ أن أكون أقل علمًا من أي شخص صغير أو كبير طالما أنني قادرة على الاكتساب ولدي الطموح والمقدرة لأكون عنصرًا فاعلًا بالمجتمع، لذلك لم اكتفِ بحضوري الدورات التعليمية والثقافية وقبلها العمل بتجارة العقارات لسنين طويلة، إنَّما كنت الدافع الأقوى لولدي وزوجته في إتمام دراستهم.”
فبعدما انقطع ولدها سنتين عن امتحانات الشهادة الثانوية عاد هذا العام ليقدمها بفرعها العلمي ويجني ثمرة إصرار والدته بمجموع يدخله فرع الطب البشري، فضلًا عن نجاح زوجته التي تكره الدراسة نوعًا ما في امتحانات الشهادة الأساسية، وكل ذلك بفضل (أم مازن).
(العمر ليس بالسنين، إنَّما بالعطاء والاكتساب، لن أستسلم لسن اليأس، العلم لذة لا يعيشها إلا من غاص فيه) عبارات رددتها النساء السابقات إلى جانب أخريات يتمِّمْنَ دراستهنَّ بالجامعات الافتراضية بعد أن ركزنَ على هدفهنَّ المخيرات عليه لا المجبرات، مثبتات عكس المقولة الشهيرة “التعليم في الصغر كالنقش على الحجر”، وهذا أكده أيضًا علماء الأعصاب بأنَّ كبار السن يتعلمون شريطة استيعابهم للمعلومة، ويدققون على معرفة مهارة واحدة، بحسب مجلة (نيوساينتيست) العلمية البريطانية.