احتلت سورية المرتبة الأولى عربياً في قائمة الدول الأكثر دكتاتورية، والثانية عالمياً، بحسب مؤشر الديمقراطية لدى إيكونومست 2019. وبلهجة الشاميين الدارجة، “فكروا حالهم جابوا الديب من ديلو”.
ويبدو أنهم استأسدوا على اﻷسد المترنح متجاهلين أنّ سورية تعيش العرس الديكتاتوري من الرأس حتى أخمص القدمين على المستوى السياسي واﻹداري، ومنطقياً تغلغل الأمر وأرخى ستره اﻷسود فوق عموم المجتمع، وما ينطبق في مناطق النظام، يسير بالتوازي معه شمال البلاد، دون استثناء فصيل عسكري أو جهة تعتبر نفسها “سياسية”.
فالقمة والقاعدة الشعبية مشبعة تماماً بسطوة القهر التي تولّدت عبر عقود طويلة أسهم فيها حزب البعث ونظام اﻷسد، وتماشينا حدّ التماهي معها، حتى باتت لغة الحوار معدمة أو تكاد.
ما يعطينا مساحةً للقول إنّ زوال الشخصيات الديكتاتورية ﻻ يعني بالضرورة زوال أثرها عن المجتمع، كما أنّ التحذير من سلطتها والدعوة إلى إزاحتها والتنديد بقهرها قديماً وحديثاً يغدو مجرد صفحاتٍ مطبوعة في أرشيف الذاكرة، ختمت بعبارة، يرجى الاطلاع؛ ما لم تترجم تلك الدعوات على أرض الواقع حِراكاً عملياً، يتسم بتوصيف المشهد ومعالجته.
لكن؛ لماذا لم تغير الثورة أو تخلق أجواءً من الحريات المنضبطة؟!
اﻹجابة معقدة، لكن ببساطة، غرّد أحدهم قبل نحو عامين، على صفحة التويتر مطبِّلاً ﻷحد رموز المعارضة المسلحة مطلقاً عليه لقب “حكيم الشام”، وليس سراً أنّ معظم قيادات المعارضة توحي دائماً للشارع بمقولة، “ما أوريكم إﻻ ما أرى وﻻ أهديكم إﻻ سبيل الرشاد”، استحضاراً لروح فرعون موسى. بالتالي؛ هذه البضاعة المزجاة ردت إلينا، ﻷننا شاركنا في صناعتها وإعادة إنتاج رموزٍ غيرها.
إذاً، صناعة الطغاة حرفة يشترك فيها “الكهنة، الشعب، الحاكم”، معادلة بحدودٍ ثلاثية ﻻ يمكن تفكيكها قبل الوعي الكامل لمفهوم الثورة ذاتها وأسباب قيامها، إذ لم يكن المقصود اﻹطاحة بشخص اﻷسد، بل تحطيم نظامه وهدمه، ومن المنطقي أن تكون أولى عمليات الهدم من داخل اﻷعشاش العنكبوتية الخربة التي نسجت خيوطها داخل كل بيت.
وقد قيل لفرعون، مين فرعنك؟! فقال: ما لقيت مين يردني!!، وهذا بالضبط ما يحصل داخل الدولة السورية، بغض النظر عمّن يسيطر على جغرافيتها.
على العكس من المطلوب الشعبي بدت المعركة ﻹزاحة الديكتاتورية البعثية التي يقودها بشار اﻷسد، إلى شكلٍ أفظع منها، بعد أن أثمرت أشواكاً جعلت الشارع يكفر بالتغيير والمنادين به، حين لخصت الفصائل المعارضة في الشمال فكرة إدارة الحكم بالصدام المسلح بديلاً عن الحوار، وتفضيل المصلحة الفصائلية على الوطنية، اﻷمر الذي أعاد المجتمع إلى المربع اﻷول، وأظهر جلياً أننا نحكم بذات العقلية، وما يحدث فقط يمثل فكرة إزالة صنم وتنصيب غيره مع اختلاف اﻹيديولوجية والانتماء الفكري بين الوجهين.
ورغم أننا مازلنا نحمل بداخلنا بذرة التغيير ورفض كل أشكال الهيمنة البعثية التي فرضها نظام اﻷسد ونقلها من الحالة الحزبية المتفردة إلى اﻷمنية المتسلطة، لكن ينقصنا الرغبة الكاملة المصحوبة باﻹرادة الحقيقية، أمام اﻷنا الضيقة التي ألغت هامش الحوار ونصبت له الكمائن والمقاصل.
باختصار؛ يواجه الشعب السوري سطوة الرأي الواحد مقترنة بمفهوم “عدم القابلية للنقاش”.
بالنتيجة، اندثار الديكتاتورية مجرد صورة شكلية سطحية ما دمنا نسمع عن شخصيات “من عوام المجتمع”-إن جاز المسمى-تمارس الفعل القهري والتسلط على الشارع أو من هم دونهم.
مجتمعياً نحتاج تحطيم موروثاتنا المكتسبة لمواجهة كساد الديكتاتورية الراسخة، مع التأكيد أن عملية التحرر لم تكتمل بعد، بل ما تزال في طور الحركة والنضج.