جاد الغيث |
“هل العلم أن تعرف أن الأرض تدور حول الشمس، وأن الشمس تدور على محورها، ولا تعرف أنت حول من تدور، ولا المحور الذي تدور عليه أيامك ؟!”
وردت هذه العبارة الحكيمة للكاتب (ميخائيل نعيمة) في كتابه الجميل (زاد المعاد).
هذه العبارة القصيرة مثيرة للدهشة، وقد أطلقت في نفسي الكثير من الأسئلة، فرغم الزيادة الهائلة في كمية المحتوى على صعيد جميع العلوم والمعارف والأشياء التي يُفترض أن تزيد رفاهيتنا وتدور حولنا لتسعدنا، إلا أن العكس حصل تمامًا، فأصبحنا ندور حول كل علم أو شيء جديد، دون أن نسعد بتوازن إنسانيتنا.
لقد صارت قيمة العلم بمستوى الشهادة الأكاديمية، مع أن القيمة الحقيقية للعلم في بذله للآخرين في سبيل ارتقائهم.
كما أن قيمة الأدب والفن عمومًا في نفعه للمتلقين وتسليط الضوء على أوجاعهم والبحث عن حلول لمشاكلهم والارتقاء بإنسانيتهم التي تتلاشى يومًا بعد يوم، وليست قيمة الأدب في الجوائز ولو كانت (نوبل)!!
قيمة المال الذي يلهث وراءه الجميع ليست في كثرته، وإنما في مواضع إنفاقه!
وتبقى دائمًا القيمة الأعلى والأغلى هي الإنسان، بكل أبعاده الحسية والروحية، وبمعنى وجوده في الحياة.
أصبحنا نتعلم ونقرأ ونجتهد ونعمل من أجل اللقب الذي نريد الحصول عليه فقط، لا من أجل رفع مستوى إنسانيتنا.
في الجامعة مثلاً، حلمنا الوحيد الحصول على ليسانس في الآداب، ونسينا ما يمكن تسميته ب (ليسانس إنسان) الذي هو الأكثر أهمية والأغلى قيمة.
وتبدأ تلك المؤامرة الخطيرة، إن صحت التسمية، بالتقاليد المدرسية (امتحانات وشهادات وحفلات تخرج..) والتي تجبر الطالب أن يحفظ ويتعب ويسهر الليل حتى تتورم عيناه، في سبيل الحصول على أعلى المعدلات، والدخول لأفضل الكليات.
كما أضحى اجتياز الطالب للسنة الدراسية بمعدل مرتفع، أهم بكثير في نظره من اجتياز امتحانات القيم ومبادئ الأخلاق، وصارت شهادة المعلمين أثمن عند الطالب من شهادة ربِّ العالمين.
كثير من المؤسسات التعليمية تقيد إبداع روادها وتحنط مواهبهم، فالمطلوب منهم مستقبلاً الدخول في (مجتمع القطيع)، فإذا ظهر علماء وفقهاء وفلاسفة مجددون مخلصون يرغبون بتقديم قيم أعلى للمجتمع والإنسان، فإنهم دون شك سيحاربون، وربما يعتقلون في سجون أنظمة مستبدة.
وبناء على ما سبق صار العلم والتعليم والأدب والقراء، والفضائيات والمتابعين، وكافة وسائل التواصل الاجتماعي وروادها، يدورون في فلك الأفكار المسموح بتداولها، أما من يجرؤ على الدوران في فلك الممنوع، فحسابه عسير، وقد لا يُعرف له مصير.
وبذلك انتصرت التفاهة على المحتوى ذو القيمة، وأُفرغت الألقاب الرنانة من صداها الذي كان يأسرنا قبل عقود.
فما عاد العالم عالمًا، ولا الأديب أديبًا، ولم يعد الأستاذ معلمًا، ولا القاضي ناصرًا للحق، وينسحب هذا المقياس على كل تفاصيلنا، فلم يعد الإنسان إنسانًا، وغدا الكثير منا وحوشًا في ثياب آدمية، مع أن العلوم تتضاعف، والتكنولوجيا تتطور، ورفاهية الحياة تزداد، ومعدل عمر الإنسان يزيد في بعض الدول!!
بينما تعود شعوب بكاملها للوراء عشرات السنين حين تزدهر الحروب، ويقضى على الأبرياء قصفًا بالطائرات الحربية، وتُرفع راية حقوق الإنسان في مبنى الأمم المتحدة، بينما يُقتل الإنسان ويُشرد ويُغتصب ويُهان في كثير من البلدان!
ربما هجر الدين وعشق المال والسلطة وراء ذلك، ولكن ما سر العلاقة العكسية العجيبة بين تطور البشرية علميًا وتكنولوجيًا وانهيارها أخلاقيًا؟!