فاطمة الزهراء العبو |
ما ذنبنا؟ ما ذنبنا يُبدل اسمنا برقم ملفٍ يُرفع إلى الأمم اليوم أو ربَّما غداً ؟! تعرَّجت خطوط طرقاتنا، وبات العالم ينظر إلينا كضحية تعيسة لأحد اللصوص، بات العالم ينظر إلينا نظرة شفقة يغلفها الاحتقار، بضميرٍ أسودَ كسواد الليل، بل وأشد …
بات الحنين مؤلماً أكثر، أصبحت أفتقدك أكثر كافتقاد يعقوب عليه السلام لابنه يوسف، أصبحت لا أرى … ولن أرى إلا إّذا أتوني بقميص شابٍ دُفن ظُلماً شهيداَ تحت التراب، أشتاق إلى كلِّ شبرٍ فيك، أحنُّ إلى الورد الأحمر المتدلي من نافذة غرفتي، ما أجمل رائحته! ما أجمل لونه قبل الدمار، قبل تحوله إلى كومةٍ من الأحجار، تدوسها أقدام المارين مرة هنا ومرة هناك! لم يبقَ شيء سوى الذكريات، وما أوجعها من ذكريات!
الحرب مذنبة يا صديقي، بدءاً من أصحاب القلوب السوداء والفكر العقيم، وانتهاءً بذلك الخائن الذي وضع يده على رأسها ليجعل من بلدي بلد الشمس والخضار، قحطاء جدباء لا تسكنها الحياة، فما عاد يُسمع فيها إلا أًصوات القنابل ودوي الانفجارات…
إلى الآن كم عزيزٍ فقدنا ؟!..
وها قد أصبح يتيماً ذاك المسكين، يتجول في الطرقات حافي القدمين في بلادٍ غير بلاده وسط أناس لا يعرفون من الإنسانية أي اسمٍ أو عنوان، يقرؤون الأخبار في صحفهم اليومية، يتجول في الطرقات برداءٍ رثٍ بالٍ وشعرٍ أشعث وعينين ترويان حكاياتِ الوجع. كلُّ يوم وفي طريقه إلى العمل صباحاً، يمرُّ من أمام أحد المباني الشاهقة ليقف أمامها متصلباً ينظر إليها نظرة إنكسار لذلك الطفل الذي يعادله سناً مرتدياً سترته الجلدية وحذاءه الإيطالي الذي يلمع أثناء حركته كأنَّه مرآة، ليصعد إلى تلك السيارة السوداء التي يقودها سائقه الخاص متوجهاً إلى المدرسة. في روتينه اليومي الذي قد يعتبر مملاً للغاية، وهو يعدُّ حلماً لأمثال هذا المسكين الذي تحمَّل هموماً فاقته سنوات، وصبر على أقسى صفعات الدهر، فما ذنبه إذ قُتل حياً! …
وما ذنب تلك الطفلة أن تصارع كهولة السبعين وهي لم تبلغ أربعة عشر عاماً بعد؟! ما ذنبها تهان؟! شاخت قبل الأون، وذبل فكرها البريء. لم تعد تشتهي الحلوى أو الألعاب، لم تعد تكترث للتزين أو الثياب، هي فقط ترى الدمار والموت يحاصرها في كل مكان …
هذا حالنا، شبنا قبل المشيب، رغم أنَّ الواقع يقول: إنَّنا استطعنا أن نهرب من قبضة الموت ذاهبين متشردين في مختلف بقاع الأرض، إلا أنَّ الموت سرق منَّا الأغلى، سرق منَّا الفرحة والأمل، سرق منَّا الحياة وأبقانا بروحٍ منهكة يأكلها الضجر، كما نفعل الآن بجسد ميتٍ وفكرٍ قد شاخ، وما يفعل الإنسان من غير الأمل ؟!…
لكنَّنا سنقطع وعداً لهذا العالم بأنَّه سيأتي اليوم الذي سننسى فيه أحزاننا، ونرمي عكاز الانحناء، ونلملم ما تبقى منَّا، رغم حقد هذا الليل وقهر الزمان، سيشق نور الفجر طرقاتنا، ومن جديد سأشم رائحة القهوة الممزوجة بعطر الياسمين، بينما العصافير ستغرد نشيد السلام، فوالله لن يجف حبر التمني قبل أن نعطي الراحة لضمائرنا ونبني وطناً يجمعنا، وطناً سالماً مسالماً لا مستسلماً، حينها فقط، سنضع بصمةً على جبين التاريخ والوطن وسننتصر ….