جمال صطوف
في ديسمبر 1979 اتخذت القيادة السوفيتية قراراً بإرسال القوات إلى أفغانستان، واستمرت الحرب تسع سنوات، حارب فيها أكثر من نصف مليون مقاتل سوفيتي، وسقط منهم 15 ألف قتيل، وأسر العديد من الجنود والضباط الروس، وعاد عشرات الآلاف من المقاتلين جرحى ومصابين يحملون إعاقات خطيرة ومثقلين بمشاهد درامية حول بشاعة الحرب أدت لإصابة العديد منهم بالأمراض النفسية.
رواية فتيان الزنك للكاتبة الروسية “سفيتلانا أليكسيفيتش” تقودنا في رحلة خلف الكواليس تدخُّل القوات السوفيتية في أفغانستان، وتناقش فيها هذا التدخل بنظرة موضوعية وإن كانت في بعض المراحل تنحاز إلى جانب الضحايا من الجنود الروس وأهاليهم وتفضح زيف ادعاءات الحكومة وأكاذيبها التي كانت تروجها في الحملات الإعلامية التي تشجع الشبان الروس على الذهاب إلى أفغانستان.
تمثل الرواية اعترافات فاضحة عن الحكومات التي تبعث أبناءها لحروب مجهولة، فتية في عُمر الثامنة عشر والتاسعة عشر يُحملون كجثث في صناديق مغمورة بالتراب، ليكونوا أثقل وزنا أثناء تشييعهم، فالجسد صار شظايا وكل عضو حي فيه صار فتاتا! والجسد الذي يسقط في تابوت يبقى سراً من أسرار السلطة، حتى الأمهات لا حق لهنَّ بوح هذا السر، ومن يعود يردم كل مشاهدات الحرب، تلك التي تخصه أو تخص غيره في بئر قلبه كأنَّه عاد من نزهة لا من مكان ملطخ بالبشاعة!
نتعاطف مع الأمهات في هذه الرواية، وتروي الأم كيف تمَّ دفن ولدها الذي قتل في أفغانستان ” لقد جرى الدفن سراً وفي الليل، وكتب على شواهد القبور توفي بدلاً من استشهد.”
يتحدث أحد رماة المدفعية: “لماذا نقاتل ولماذا يقتلوننا، الميت لا ينتمي إلى أحد، لم تعد في وجهه سمات الحقد.” يبحث الجندي عن جدوى هذه الحرب متسائلا: “ماهي الدوافع التي من أجلها نقوم بقتلهم؟ لماذا نقوم بنشر كل هذا الدمار والموت والخراب؟ وفي النهاية يبقى الميت لا يحمل أي انتماء.”
أحدا أكبر الادعاءات والأكاذيب التي روجت لها الحملة الإعلامية السوفيتية أنَّ المهمة الرئيسية للقوات هي بناء الجسور والمدارس وغرس الأشجار وعلاج الأطفال ونساء الأفغانيين، بينما الحقيقة عكس ذلك باعتراف أحد الضباط الذي يقول: “قيل لنا أنَّ الحرب عادلة، نحن نساعد الشعب الأفغاني في التخلص من الإقطاع، وفي بناء مجتمع اشتراكي، وسكتوا عن قتلانا وقتلاهم، وعن الأطفال الذين سقطوا بنيران مدفعيتنا، وبعد كل هذا يقولون لنا: إنَّ هذه الحرب خطأ سياسي.”
تطرح الكاتبة سؤالا على الضابط نفسهم، كم عدد القرى المهدمة التي رأيتها؟ يجيب أحد الضباط: “لم أشاهد روضة أطفال أو مدرسة واحدة شيدت كتلك التي كتب عنها في الصحافة، إنَّ هذا يدل على كذب الإعلام السوفيتي.”
هذا بالنسبة إلى القتلى، وثمة آخرون يعودون كمعاقين ليس لهم أذرع، وأرجل، وأعضاء الذكورة مبتورة، بل حتى أحلامهم بترت، إنَّه موت ناقص يكملون طقوسه في أرض الوطن بالانتحار.
أمَّا أولئك الأصحاء الذين سلموا من الخدوش، فهم أكثر المنهزمين، هؤلاء تكون الحرب قد سلبت أرواحهم تماما، يبلغ الجندي مرحلة لا يتحمل فيها ثقل وجوده، غريبا عن نفسه، تائها عن كل شيء، ضميره صفر بعد أن اعتاد مشاهد القتل والوحشية، بعد أن رأى كيف استحال الدم ماء على يديه دون أن تفتت تلك المشاهد الحادة قلبه.
إذا انتقلنا إلى الجانب الآخر الأفغاني بشهادات السجانين: ” لم يخافوا الموت، لقد كانوا يعرفون أنهم سيعُدمون غداً وهم يضحكون، كانوا مسرورين وهادئين.”
هذه الرواية هي حرب الأمهات أيضاً، ففي إحدى الأمثال القديمة كان يقال: ” الأم التي تبعث أبناءها للحرب هي حربها أيضا ” وسفيتلانا كأنَّها ارتكزت على هذا المثل في توثيق شهادات الأمومة المنكوبة.
يتشابه تدخل القوات الروسية في سورية بمثيلاتها في أفغانستان، خاصة أنَّ الإعلام الروسي يظهر وجود قوته في سوريا من أجل مكافحة الإرهاب ومساعدة الشعب السوري، بينما الحقيقة أنَّ هذا التدخل قد جلب الدمار والموت للسوريين، بل ضحايا الاحتلال الروسي في سوريا فاقت ضحايا إرهاب النظام السوري نفسه.
كما فشل التدخل العسكري السوفيتي في أفغانستان، سيفشل في سوريا أيضاً لكن لن يدركوا هذه الحقيقة إلا بعد فوات الأوان.
قد تمنع هذه الرواية في بعض الدول كمثيلاتها من الروايات كرواية 1984 لجورج أورويل، فالتساؤلات والشهادات التي تطرحها لن تمر مرور الكرام لدى كل من رفع راية الحرب، وقد تكون بداية لمحاسبة الحكومات التي تأخذ أبناء شعبها نحو الهلاك من أجل بعض المكاسب، وفي مرحلة لاحقة سيعتذرون للشعب عن هذه الحروب بعد سقوط آلاف القتلى.