غسان دنو |
لم ينفك العالم طوال أسابيع عن إحصاء أماكن انتشار فايروس كورونا المُستجِد المُسمَّى علميًا (كوفيد 19) وتخمين أسباب نشوئه، أهو من سوء طهي للطعام في الصين أو حرب بيولوجية أمريكية؟ وبغض النظر عن الاحتمالين السابقين يستمر حصد أرواح الأحبة جراء الفايروس ليغدوا أرقامًا سيسجلهم التاريخ، لكن في الوقت ذاته يسلبُ منَّا احتضان أطفالنا وتقبيلهم، حيث باتوا ينظرون إلينا باستغراب متسائلين: لم يعد أبي يقبلني، ويضمني، ويلعب معي!!
عندما أرتدي ذاك القناع المخيف أتخيل طفلي يشتاق لرؤية ابتسامتي وحتى تقطيب حاجبَي في وجهه البريء مُعاتِباً إياه على خطأ طفوليٍ ارتكبه، حتى زوجتي رغم وعيها بجدية الأمر تغيرت تصرفاتها وباتت غاضبة وأكثر اشتياقاً لاحتضاني عند عودتي من عملي كما اعتادت أن تفعل.
ولكن عن أي عمل أتكلم اليوم؟! أعمل من المنزل منذ أسابيع مُتبِعاً برتوكولات الحماية التي أقرتها الإدارة للحد من انتشار ذاك الكوفيد، وهذا ضغط إضافي أعانيه، فالعزل عن العمل والأسواق وأطفالي الذين بتُّ في نظرهم (بعبعًا) مقنعًا، وفقداني لروتيني الأسبوعي في متابعة دوريات كرة القدم التي توقفت كلها بسبب الكورونا، كل ذلك زاد من اكتئابي فوق ما يفعله بنا الحذر من الإصابة الفيروسية.
تبقى لي أسبوع لأخرج من هذا الحجر الصحي اللعين وأدخل في مرحلة العلاج النفسي لتأثيراته علي، فأنا أصلاً لست مصابًا، والتحليلات التي أجريتها مرارًا تؤكد ذلك، لكن وساسًا اعتراني لأيام وأنا أنظف هنا وأعقم هناك، ألمس وجهي بعقب يدي لأخفف حكة تصيبني من نشرات الأخبار الكورونية.
نعم.. لقد حجرت نفسي تحسبًا لاحتمال إصابتي ولخوفي من نقلها لأعز الناس من حولي (أمي، أبي، زوجتي، أولادي، أصدقائي ..)
ربما سلبني كورونا أشياء أحبها، لكنه أكسبني قوة التحمل لأجل من أحب، وجعلني أُقدِّر زوجتي أكثر على صبرها عليَّ طوال فترة الحجر وهي تعلم أني سليم معافى.
هي قصة بسيطة أحببت أن أعيشها معكم لأبيِّن فيها معاناة آلاف الأشخاص الذين عانوا بسبب غلطة بشرية مهما كان سببها، إهمال، حرب، ابتلاء إلهي عقاباً على ما اقترفته البشرية لسنوات.. إلى آخر من الأسباب.
وعلى الرغم من كل ما سبق، تغيرت فينا أشياء كثيرة وبتنا أكثر حذرًا في النظافة الشخصية والعامة وفي التعامل اليومي مع كل سطح ومقعد وطاولة، وفي آداب السعال والعطس، و في جدية الطهي، واختيار طعام صحي.
لقد أعطانا كورونا على الصعيد الشخصي بداية جديدة لنحيا بشكل سليم، ونعيد النظر في تصرفاتنا الموبوءة وعلاقتنا الاجتماعية الساذجة في عالم اكتسحته الأمراض والجراثيم التي ننشرها.
وعلى صعيد كوكبنا الأزرق طرأت الكثير على تلك المدن المكتظة بالسيارات ودخان المعامل، فعلى سبيل المثال في الصين التي تتعافى تدريجياً من هذا الوباء القاتل أعلنت بشكل رسمي انخفاض نسبة انبعاث غاز أكسيد الكربون من 30% إلى أكثر من 20% بسبب توقف الملاحة الجوية والمصانع لتطبيق إجراءات العزل في المنازل على مواطنيها.
وفي إيطاليا باتت القنوات المائية في مدينة فينيسيا (البندقية) أكثر نقاوة بعد توقف حركة القوارب السياحية التي تعمل على الديزل عن العمل بسبب إجراءات الحكومة ضمن سياسة العزل للحد من انتشار كورونا.
وحتى في نيويورك أشار باحثون فيها إلى أن الفحوصات التي أُجرِيت مطلع الأسبوع الماضي أظهرت تحسنًا واضحًا في جودة الهواء لمدينة نيويورك، حيث كان الأنقى مقارنةً بالسنة الماضية بانخفاض 50% عمَّا كان عليه، أيضًا بسبب تطبيق إجراءات الوقاية من كوفيد 19.
ولكن مدير وكالة الطاقة الدولية (فاتح بيرول) أشار إلى أن “الانخفاض المحتمل في انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في العام 2020 سيكون طفرة قصيرة المدى، وسيعود انتعاش نمو الانبعاثات مع ارتفاع النشاط الاقتصادي مرة أخرى”
البشر استهلكوا كوكب الأرض، وضغطوا عليه بشدة مُؤخرًا، فعاد عليهم كورونا بضغط أكبر كتحذير ربما للبشرية جمعاء لتدارك الخطر قبل فوات الأوان.