في طريقي إلى حلب الغربية كان عليَّ أن أعبر (معبر الموت) وهو طريق يصل مناطق الثوار الشرقية بمناطق سيطرة النظام في الجهة الغربية من حلب، يبدو المعبر كالمحشر، يستغرق المرور فيه أكثر من عشرة دقائق سيرًا على الأقدام، الكل يشعر ببطء الزمن في وقت العبور، تغدو الدقائق العشر كأنها عشرة أيام، الكل يقرأ الفاتحة والتشهد ويسلم أمره لله ويمضي متوقعًا أن أي طلقة لقناص نظام الأسد ستصيبه، يومها لم يصب أحد بأذى ووصلنا سالمين أنا ومجموعة من أصدقائي إلى حاجز النظام، تفقد الحاجز بطاقاتنا الشخصية واقتادنا إلى الطابق الأخير في بناء مجاور، كان مجرد مجند مربوع القامة وجهه أسمر وعيناه تشعان حقدًا وكراهية وتفوح من بذته العسكرية رائحة تعرقه المزعجة، شهر سلاحه في وجهنا وأمرنا بحمل أكياس الرمل ووضعها على شرفة المنزل لتصبح الشرفة مكانًا آمنًا له للتخفي من وجه قناص الثوار.
كان من الممكن جدًا أن يصوب قناص الثوار رصاصه نحونا، لأنه سيظن أننا من جنود الأسد، خطرت ببالي فكرة لعلها تبعد عنَّا الأذى، خلعنا قمصاننا، فصرنا عراة الصدر وبدأنا بنقل الأكياس مع كل كيس نقرأ آية الكرسي، نتشهد أكثر من مرة، وبسرعة نضع الكيس ونعود لأخذ غيره، لعل قناص الثوار رآنا بوضوح ولم يطلق رصاصه نحونا لأنه يعرف أن جنود النظام يطلبون من المدنيين العابرين إلى مناطقه أن يقوموا بمثل هذه المهام، ولعل صدورنا العارية كانت دليلاً على ذلك.
تلوثت ثيبابنا ووجوهنا بالغبار، وحين طلبنا البطاقات الشخصية لنكمل عبورنا، رماها المجند من الطابق الأخير، وتبعثرت على الأرض، أسرعت لألتقط بطاقتي التي استقرت على طرف فتحة الصرف الصحي المكشوفة، وحين أمسكتها بيدي تنفست بعمق وحمدت الله على سلامتنا، نظرت إلى الساعة فكانت قد تجاوزت الثانية عشرة ظهرًا، الامتحان قد بدأ منذ نصف ساعة، ولن أستطع تقديم المادة الأخيرة لي في كلية الحقوق، تسمَّرت في مكاني مُحبطًا، وارتفعت حرارة جسمي وبدأ الغيظ ينهشني بمخالبه القوية، يجب أن انتظر الدورة الامتحانية القادمة بعد عدة أشهر، لن أتخرج هذا العام، ماذا أصنع في الأشهر القادمة؟ هل أعمل حمالاً لأمتعة العابرين؟!
هل أبيع البندورة على عربة متنقلة بين طرفي المعبر؟! ما هذه الأفكار الغريبة، يمكنني العمل معلمًا في مدرسة حينا. الناس حولي ما زالوا يعبرون، يملؤهم الخوف من طلقة قناص مفاجئة، كلٌّ يسعى إلى غايته، نسيت قهري وأنا أتأمل الساعين بين طرفي المعبر الحاملين أرواحهم على أكفهم، صغارًا وكبارًا، رجالاً ونساءً، ثيابهم نظيفة ووجوههم كالحة، طلقات القناص تلاحق الناس كما في كل يوم الناس، الرجال انبطحوا أرضًا، والنساء يبكينَ ويبتهلنَ إلى الله، وبعضهم راح يركض بغير هدى، وبعضهم أختبأ خلف جدار، مرت بضع دقائق على هذه الحال، سمعت خلالها أصوات بكاء لأطفال يغزوهم الرعب وابتهالات لسيدة مريضة كانت قريبة مني وجهها المليء بالأسى ذكرني بوجه أمي، ورجل مسن على عكازين كان يعلو صوته مرددًا (الله أكبر.. الله أكبر) لا أدري كم مرَّ من الوقت ونحن على هذه الحال من السكون في المكان والذعر في القلب، ما أذكره أنني وصلت في الثالثة عصرًا إلى بيتي، كنت متعبًا وثيابي متسخة ورائحة عرقي تزخم أنفي!
بكت أمي حين رأتني على تلك الحال، وقصَّت معاناتي على جارتنا المريضة بالقصور الكلوي التي تضطر للعبور إلى مشفى الجامعة ثلاث مرات كل أسبوع، وزوجها الذي يعمل في مناطق سيطرة النظام يعيش الموت عبورًا كل يوم مرتين ذهابًا وإيابًا، وابنهما الوحيد طالب في كلية الطب في السنة الثالثة يضطر للمبيت في بيوت أصدقائه تجنبًا لخطر العبور خاصة بعد أن رأى أمام عينيه شابًّا أصابته طلقة القناص في رأسه.
انتهت أمي من سرد قصة من بين آلاف القصص الحقيقية التي تروي معاناة الطلاب والعمال والمرضى والمساكين الذين ليس لهم إلا أن يعبروا (معبر الموت)!! فزعت أمي إلى الصلاة، بينما كان قلبي حزينًا، يلهج بالحمد والدعاء ولساني لا ينفك يتلو غفرانك اللهم، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.