يلعب مجلس الأمن الدولي دوراً مهماً في الساحة الدولية للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين من خلال المسؤولية التي تخوله حيازة صلاحيات واسعة عند بناء قراراته، وخصوصا تلك المتعلقة بالقضايا الجنائية الدولية التي يتم تصنيفها تحت بند الجرائم ضد الإنسانية.
قبل إعلان تشكيل محكمة العدل الدولية من قبل الدول المجتمعة في روما عام 1998 كان مجلس الأمن يصدر قراراً دولياً بتشكيل محاكم تحقيق في الجرائم التي ترتكبها حكومات أو منظمات أو جماعات، وهذه الجرائم ترقي إلى مستوى التطهير العرقي والإبادة والاعتداء على الأمن والسلم الدولي.
غير أنَّ تشكيل محكمة الجنايات الدولية كانت علامة فارقة في تاريخ البشرية لمحاسبة مجرمي الحرب، حيث وُضع لهذه المحكمة نظامٌ أساسي من مئة وثمان وعشرين مادة، وكانت أكثر موادها الجدلية تلك المواد المتعلقة بعلاقة المحكمة مع مجلس الأمن الدولي.
أحدثتْ هذه المواد شرخ عميق بين وفود الدول المجتمعة والمؤسسة للمحكمة، واتجهت الآراء فيها إلى ثلاثة اتجاهات:
الأول: يرفض أن يلعب مجلس الأمن دوراً في عمل المحكمة الجنائية، وألاَّ يتعدى على اختصاصها لأنَّ مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة هو عبارة عن هيئة سياسية، بينما محكمة العدل هي جهاز قضائي، وبتالي فإنَّ مسألة تسييس القضايا التي يحيلها هذا المجلس واردة جدا، كما أن تبعيتها للمجلس تتناقض مع مبدأ مهم وهو استقلال القضاء.
وقد دافع عن هذا المبدأ المشاركون من دول العالم الثالث وبعض الدول الأوربية، ما دفع بالبعض إلى الانسحاب من المؤتمر التأسيسي.
الثاني: اتجاه يعبر عن رؤية الدول العظمى ودول أعضاء مجلس الأمن، ويعتبر أنَّ مجلس الأمن له دور كبير في عمل هذه المحكمة وآليات عملها ونطاق القضايا التي يتم إحالتها لها من الناحيتين الزمانية والمكانية، وبتالي فإنَّ دور المحكمة هو جهد متمم لدور مجلس الأمن في التحقيق والملاحقة بعد تحريك الدعوى.
الثالث: هذا الاتجاه حاول أخذ منحى وسطيا بين الاتجاهين السابقين، ودعم ذلك بعض الدول والمنظمات وهيئات المجتمع المدني للحيلولة دون وقوع الخلاف المستمر حتى اللحظة.
وفي نهاية المطاف تم اعتماد نظام أساسي قريب جدا من رؤية أعضاء مجلس الأمن في رسم حدود العلاقة بين المجلس والمحكمة، حيث ورد في المادة 352 “يحدد مجلس الأمن الشروط التي يجوز بموجبها لسائر الدول الأخرى أن تتقاضى إلى المحكمة، وذلك مع مراعاة الأحكام الخاصة الواردة في المعاهدات المعمول بها.”
كما نصت المادة 132 على أنَّ لمجلس الأمن الحق في إحالة أي قضية للمحكمة بعد صدور قرار يتخذه الأعضاء بالإجماع بناء على سلطة المجلس التقديرية.
إنَّ وجود هذه المواد في النظام الأساسي يقوض عمل المحكمة ويعكس على قضاياها صورة الصراع الدولي سواء بالضغط أو بالحماية، ويجعل من المحكمة أداة للتنفيذ الأجندات وورقة مساومة وضغط بين دول مجلس الأمن، والقضية الفلسطينية خير مثال على لذلك، حيث منعت الولايات المتحدة عشرات القرارات التي أُدرجت على جدول أعمال مجلس الأمن من أجل إحالة سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى هذه المحكمة بسبب ممارساتها الإجرامية على الفلسطينيين سواء بالاعتداءات العسكرية أو الحصار وغيرها..
كما استخدمت روسيا حق النقض الفيتو في مواجهة استصدار قرارات للتحقيق في قتل متظاهرين إيرانيين، واستخدمت هذا الحق أكثر من 11 مرة في قضايا تدين نظام الأسد، وأخرى تدعو إلى التحقيق في هجمات بالأسلحة الكيميائية.
إنَّ هيمنة المجلس على عمل المحكمة الدولية مخالف تماماً للهدف الذي شُكلت من أجله ما جعلها دائرة تنفيذية لمجلس الأمن، تخضع لتفاهمات ومساومات الدول الكبرى، وتمكن مجرمين دوليين من الإفلات من العقوبة والمحاكمة العادلة.