لم تعد الأسرة السورية بعد اليوم بحاجة إلى خطط تنظيم وتحديد النسل تجنباً لتضخمٍ سكاني متوقع حسب الإحصاءات الأخيرة في عام 2010، حيث كانت الدولة السورية من الدول التي تعاني زيادة في معدل الولادات كل عام، لكن هذا الكلام تغير بشكل قطعي بعد عام 2011 عام بداية الثورة واتساع رقعة الحرب التي كانت كفيلة بزعزعة النظام الأسري وشل معدل الخصوبة والولادات المتعارف عليه.
فبعد أن كانت سورية من الدول المتقدمة في معدل الولادات حيث بلغت نسبة الولادات نحو نصف مليون طفل في كل عام قبل 2011، إلا أنه سرعان ما انخفضت النسبة إلى 200 ألف طفل وذلك عام 2015حسب ما أعلنت عنه مصادر في كلية الطب في جامعة دمشق عام.
هذا وتفتقر الإحصائيات في هذا المجال إلى التحديث ومعرفة آخر ما وصل إليه النمو السكاني ولاسيما في دولة مقسمة بين النظام والمعارضة.
وعند الرجوع إلى موقعي وزارة الصحة والمكتب المركزي للإحصاء، وهو الجهة الوحيدة التي تم اعتماد بياناتها لوضع الخطط الرسمية، تبين أن أحدث البيانات تعود إلى عام 2011 بالمقابل واظبت منظمة الأمم المتحدة على تحديث بياناتها، فتبين أن معدل نمو السكان في سورية بلغ 2.08 بين عامي 2000–2005.
وقفز إلى 3.4 بين عامي 2005-،2010، لكي تتتالى بعد ذلك أرقام مرعبة تشير إلى مخاطر حقيقية، حيث قدرت نسبة نمو السكان بين 2010-2015 بمعدل 0.67
وإذا ما بقي الوضع على هذا الحال فمن المتوقع أن ينخفض معدل نمو السكان بين 2020-2025 إلى 1.43، وهناك عدة عوامل تتحكم بالنمو الديموغرافي للبلد أهمها، معدلات الزواج والولادات والوفيات والانتقال الجغرافي (النزوح).
معدلات الزواج تراجعت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة تزامنا مع الحرب المشتعلة وما نتج عنها من عزوف عدد كبير من الشبان عن الزواج، وهجرة عدد آخر الى بلدان اللجوء، وسوء الحالة الاقتصادية وتفشي البطالة في صفوف الشباب، كل هذه العوامل حدَّت من معدلات الزواج، وبالتالي أثرت على عدد الولادات بشكل ملفت.
وتراجعت معدلات الإنجاب لدى غالبية الأسر لصعوبة تأمين متطلبات الطفل، خاصة في بؤرة الحرب المشتعلة التي كانت الطفولة الضحية الأولى فيها، فأصبحت الأسرة تكتفي بطفل أو اثنين كحد أقصى.
وكانت زيادة الوفيات من أبرز تداعيات الأزمة السورية على الوضع السكاني، متمثلة بالنزيف البشري الناتج عن العمليات العسكرية المباشرة، وإحداث حالات إعاقة دائمة أو مؤقتة، وشكل الأطفال قسما كبيرا من تلك الضحايا..
هذه العوامل مجتمعة أثرت في عقلية الأسرة السورية وجعلتها تعيد حساباتها بشأن الإنجاب في ظل الحرب والصراع الذي دخل عامه الثامن ولا جديد سوى وجوه الضحايا وأرقام مخيفة عن عدد القتلى لاسيما الأطفال.
السيدة (وصال الخطيب) أم لطفل وحيد يبلغ أربع سنوات، قررت ألا تكرر تجربة إنجابها ثانية، فالحرب وعدم الاستقرار خلقا بيئة منكوبة لا تصلح لتأسيس أسرة وإنجاب أطفال غير قادرين على حمايتهم حسب قولها وتابعت: “الإنجاب في هذا الزمان جريمة بحق الطفولة، فلماذا أنجب وأعرض أطفالي للهلاك والجوع والحصار وأنا عاجزة عن تقديم أدنى مقومات الحياة لهم.”
رأي السيدة وصال جاء بعد تجربة مريرة في الحصار عانت من خلالها كأي أسرة منكوبة ظروفا قاسية جعلت الأمومة بالنسبة إليها حملا ثقيلا ومسؤولية كبيرة.
لكن لو فكرت كل النساء كما تفكر السيدة وصال فسنقضي على جيل كامل من الأطفال ونخلق فجوة عميقة في بنية المجتمع السليم.
تبقى هذه الآراء متفاوتة بالنسبة إلى مجتمع منوع كالمجتمع السوري، فالسيد (أبو محمود الديري) وهو من دير الزور كان لديه وجهة نظر مخالفة تماما، لخصها بآية كريمة “المال والبنون زينة الحياة الدنيا.”
فإن حُرمنا المال، فلماذا نحرم أنفسنا من الأولاد؟! فأبو محمود يرى أن الأطفال يمنحونه السعادة في ظل البؤس الذي نعيشه، وقد وُكلّ أمر أطفاله الخمسة لله ولم يحمِّل نفسه ذنب إنجابهم، على العكس فهو يشعر بعز وقوة كلما كانت ذريته أكثر.
واختتم حديثه بقوله: “بدنا نظل نجيب ولاد لنعوض الشباب الي راحت”.
وقد تباينت الآراء بين المناطق التابعة للنظام، وبين المناطق المحررة التي تشهد توترا دائما.
ولكن تبقى نسبة الانخفاض في مسالة الإنجاب هي المسيطرة على المشهد.
وبما أنه من بمكان الحصول على إحصائيات دقيقة بشأن هذا الموضوع خاصة في مناطق المعارضة، فقد اكتفينا بالنظرة الغالبة للأسرة وهو اقتصارها على ولدين أو ثلاثة كحد أقصى، وغالبية هؤلاء الأطفال غير مثبتين بالسجلات الرسمية، فأي أرقام أو إحصائيات ستفتقر إلى المصداقية.
وأخيرا عندما تشتعل الحروب في زمن محدد وتنطفئ، سيبقى دخانها ممتداً لعدة أجيال وسيلوث كل ما يأتي في طريقه، ولعل الطفولة إحدى أكبر الخاسرين فيها، كأن هذه الحرب خصصت لها ومن أجلها.