ترجمة | ساسة بوست
أثارت عملة البيتكوين الرقمية -وغيرها من العملات المُشفَّرة المماثلة- ضجةً كبيرةً في الاقتصاد العالمي، بعد أن تخطى سعر البيتكوين الواحد 20 ألف دولار منذ عامٍ واحدٍ فقط. وتُعَدُّ البيتكوين عملةً شديدة التذبذب، إذ انخفض سعرها الآن إلى قرابة 4 آلاف دولار، لكن صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية ترى أن هذه العملة يُمكن أن تُساعد إيران في تجاوز العقوبات التي أعادت الولايات المتحدة فرضها، وتفتح جبهةً جديدةً في الحرب الاقتصادية بين واشنطن، وطهران.
وذكرت «نيويورك تايمز» أن الاقتصاد الإيراني تعثَّر نتيجة العقوبات المصرفية التي منعت الشركات الأجنبية من التعامل تجاريًّا مع البلاد. لكن التعاملات باستخدام البيتكوين، التي يصعب تَعقُّبها، ستسمح للإيرانيين بدفع المبالغ المالية دوليًّا، مع تجاوز القيود الأمريكية المفروضة على البنوك.
مخاوفٌ أمريكية
في الماضي، كان تهديد العقوبات الأمريكية كافيًا لإفساد معظم الأعمال التجارية مع إيران، بحسب الصحيفة، لكن المدفوعات المجهولة باستخدام البيتكوين يُمكن أن تُغيِّر ذلك. وفي الوقت الذي تستطيع خلاله الولايات المتحدة مراقبة الشركات الضخمة وترهيبها، يُمكن لأعدادٍ لا تُحصى من الشركات الصغيرة والمتوسطة أن تستغل البيتكوين وغيره من العُملات المُشفَّرة لتُجري تبادلاتٍ تجارية مع إيران، بعيدًا عن الرادار الأمريكي.
وتُحاول وزارة الخزانة الأمريكية، التي تُدرِك مخاطر الأمر، أن تفرض الالتزام على البيتكوين وغيره من العملات المشفرة. وخلال الأسابيع الأخيرة، فرضت وزارة الخزانة عقوباتٍ على اثنين من الإيرانيين و«محافظهما» التي استخدماها لتداول العملة، بحسب الصحيفة الأمريكية، في أعقاب قضية احتيالٍ عبر الإنترنت يعود مصدرها إلى إيران.
وأفادت الصحيفة أن وزارة الخزانة حذَّرت أيضًا الأسواق الرقمية التي تبيع وتشتري باستخدام البيتكوين، والشركات التي تبيع أجهزة الحاسوب التي تُستخدم في معالجة معاملات البيتكوين، بأنها لا يجب أن تُقدِّم خدماتها للإيرانيين. وحظرت مجموعةٌ من مواقع التداول المشهورة البائعين والمشترين الإيرانيين، في حين صادرت بعضها الأموال المملوكة لعملاءٍ مقرُّهم إيران. وقالت الوزارة في بيانها: «سُتلاحق الخزانة بكل حزمٍ إيران وغيرها من الأنظمة الخارجة عن القانون التي تُحاول استغلال العملات الرقمية».
طبيعةٌ تُلائم الاحتياجات الإيرانية
أوردت «نيويورك تايمز» أن العُملات الرقمية، بطبيعتها، لا يُمكِن لأي شخصٍ أو مؤسسةٍ أن يتحكم بها. وتكون محاولات تنظيمها ومراقبة تجارتها مؤقتةً وغير مجدية في أفضل الأحوال. ونفت وجود وسيلةٍ فعَّالةٍ لتطبيق العقوبات البنكية، التي أثبتت جدواها في الإضرار بالاقتصاد الإيراني، على البيتكوين وغيره من العملات المشفرة.
إذ يجري تسجيل معاملات البيتكوين في دفتر سجلاتٍ رقمي، أو قاعدة بياناتٍ تُعرَف باسم «البلوكتشين»، بحسب الصحيفة الأمريكية، ويُحتَفَظُ بها جماعيًّا داخل الكثير من الحواسيب المستقلة. وصُمِّمَ هذا النظام خصيصًا لتجنُّب البنوك المركزية والمؤسسات المالية الكبيرة. ومثل رسائل البريد الإلكتروني التي تصل دون المرور بخدمة البريد المركزية، تسمح شبكة الحواسيب التي تحتفظ بسجلات البيتكوين بنقل الأموال دون المرور بسلطةٍ مركزية.
وترى «نيويورك تايمز» أن الحكومة الإيرانية تأخَّرت في إدراك إمكانية التهرُّب من العقوبات باستخدام البيتكوين، لكنها تدرس الآن الاعتماد على هذا النوع من التداولات لتسهيل التجارة، حسبما صرَّح مؤخرًا عبد الحسن فيروزآبادي، أحد المسؤولين. وقال البنك المركزي الإيراني مؤخرًا إنه يدرس جديًّا إصدار عملةٍ مماثلةٍ تحت اسم كريبتو-ريال، على غرار العملة الإيرانية الرسمية: الريال، رغم فشل عملة البترو -العملة المشفرة المدعومة من الحكومة الفنزويلية.
ووصفت الصحيفة مغامرة إيران مع البيتكوين بأنها ضئيلةٌ مقارنةً بما يحدث في جورجيا، الجمهورية السوفيتية السابقة، حيث يخوض الكثيرون الآن في تجارة العملات المُشفَّرة.
مُغامرةٌ في الصحراء الإيرانية
وزار توماس إردبرينك، مراسل «نيويورك تايمز»، موقعًا صناعيًّا موحلًا داخل الصحراء الإيرانية، برفقة مستثمر بيتكوين أوروبي -يبلغ من العمر 22 عامًا- ومُتخصِّصٍ في تكنولوجيا المعلومات و«مُعدِّن بيتكوين» ورجل أعمالٍ يُدير الموقع، ليُلقي نظرةً على حاويات شحنٍ رماديةٍ تحتوي على آلاف الحواسيب الصغيرة التي يُمكن أن تُساعد إيران على تجنُّب العقوبات الأمريكية، بمجرد توصليها بالشبكة الكهربائية، نظريًّا على الأقل.
ولم يبد أن طاقم عملية المعالجة الحاسوبية التي ستجري في الصحراء الإيرانية يكترث بالتداعيات الجيوسياسية للبيتكوين، بحسب الصحيفة.
وذكرت الصحيفة الأمريكية أن العملية تتألَّف من 2800 حاسوب صيني داخل ثماني حاويات، وتُسمى تلك الحواسيب بالـ«مزرعة» عند ربطها معًا. وتُجري تلك المزرعة حساباتٍ رياضية مُكثَّفة تُدعى «التعدين»، وهي العملية الضرورية لتوثيق معاملات البيتكوين. ويُحصِّل المُعدِّنون رسوم خدماتهم بعملة البيتكوين.
وأجرى الزائر الأوروبي حساباته لتقدير حجم الأموال التي ستُنتِجها هذه المزرعة تحديدًا، بحساب القدرة الحاسوبية، وخصم تكاليف الكهرباء والتشغيل. وقدَّر الأوروبي، بحسب «نيويورك تايمز»، أن تلك المزرعة بإمكانها تعدين خمسة بيتكوينات شهريًّا، والتي تساوي حسب أسعار البيتكوين الحالية -4 آلاف دولار للبيتكوين تقريبًا- قرابة 20 ألف دولار.
وقال بهزاد، الرئيس التنفيذي لشركة «إيران أسيك» التي تُدير الموقع: «سيعمل اثنان من المهندسين فقط داخل الموقع لضمان سير العمليات بالشكل المطلوب». ورفض، على غرار المستثمر الأوروبي، أن يذكر اسم عائلته مخافة العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة.
وأفادت الصحيفة الأمريكية أن الحواسيب الصينية، من طراز «Antminer V9s أنتماينز في 9 إس»، تُعتبر قديمة الطراز من وجهة نظر الزائر الأوروبي. لكنه قال: «أعتقد أن هذا هو آخر مكان على الأرض حيث ما تزال هذه الحواسيب مُربحة».
وترى «نيويورك تايمز» أن إيران تخطو أولى خطواتها تجاه التحوُّل إلى مركزٍ دوليٍ لتعدين البيتكوين بفضل الدعم الحكومي السخي الذي يخفض تكاليف الكهرباء -وهي الطاقة اللازمة للحواسيب من أجل معالجة معاملات العملات المشفرة. إذ تبلغ الأسعار في إيران 0.6 سنت أمريكي للكيلو وات/ ساعة، مقارنةً بمتوسط 12 سنتًا في الولايات المتحدة، و35 سنتًا في ألمانيا.
ودرس عشرات المستثمرين الأجانب من أوروبا وروسيا وآسيا، بحسب الصحيفة، نقل عمليات تعدينهم إلى إيران وغيرها من الدول قليلة التكلفة، مثل جورجيا خلال الأشهر الأخيرة. وقال المستثمر الأوروبي: «يجب أن نكون أكثر مرونةً في هذه التجارة، وننتقل إلى الأماكن ذات الأسعار الأقل لننجو».
وقال زيا صدر «مُعدِّن البيتكوين» -حسب وصفه- ذو اللحية، الذي يبلغ من العمر 25 عامًا، والذي رافق مراسل «نيويورك تايمز» إبان الجولة وهو يرتدي قبعةً وحقيبة ظهرٍ مليئة بالأقراص الصلبة ووحدات يو إس بي التي تحتوي على ثروته الشخصية من العملة: «تُساعدني العملة المُشفَّرة على دفع تكلفة الوظائف التي تُنجِزها مصادر خارجية، كما تسمح للشركات الأجنبية أن تدفع لي تكاليف الخدمات التي أُقدِّمها».
وأضاف صدر أنه يعمل حاليًا على هندسة منتجات مواقع الويب للعملاء الأجانب، ويحصل على أمواله بعملة البيتكوين، وقال: «هذه ليست مشروعات ضخمة، ولكنني لن أتمكن من الحصول على تلك العقود واستقبال أموالي داخل إيران دون البيتكوين».
وأفادت الصحيفة أن حساب صدر سيتعرَّض للحظر على الأرجح في حال حاول تمرير تلك المعاملات عبر المؤسسات المالية التقليدية.
وبدأت بعض الشركات الكبيرة، بحسب الصحيفة، في استخدام البيتكوين لتسديد مدفوعاتها، والتحايل على العقوبات. وتتعاون الشركات الأوروبية والآسيوية بشكلٍ كبير، في ظل معارضة حكوماتها لقرار إدارة ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات.
وأوضح صدر، الذي ناقش إمكانات البيتكوين مع مسؤولين في الحكومة الإيرانية: «ليس هناك سبيلٌ آخر أمامنا، إذ لا يُمكن لأحدٍ أن يفرض عقوباتٍ على البيتكوين، سواء الولايات المتحدة، أو أي حكومةٍ، أو كيانٍ مالي آخر».
مُحاولاتٌ أمريكيةٌ غير مجديةٍ لاحتواء العملات المُشفَّرة
ولكن الصحيفة الأمريكية ترى أن ذلك الرأي ليس صحيحًا تمامًا. إذ أظهرت العقوبات الأخيرة، التي فُرِضَت على عنوانين أو محفظتين رقميتين للعملة ومالكيهما الإيرانيين، أن وزارة الخزانة الأمريكية تستطيع تعطيل صفقات العملات المشفرة حتى لو بنسبةٍ صغيرةٍ من المجموع الكلي. ولكن إنشاء محافظ مجهولة جديدة لا يستغرق سوى بضع دقائق، بحسب الصحيفة.
وأتت خطوة وزارة الخزانة، بحسب «نيويورك تايمز»، في أعقاب إدانة وزارة العدل لإيرانيَّيَن آخرين بتهمة استخدام برنامج فدية «سامسام» ضمن مُخطِّط مُتطوِّرٍ من الهجمات على المستشفيات والوكلات الحكومية الأمريكية ومدينة أتلانتا. وأصبح فارامارز شاهي سافاندي، ومحمد مهدي شاه منصوري على قائمة المطلوبين بواسطة مكتب التحقيقات الفيدرالي، ويُعتقد أنهما هاربان في إيران.
وإبان الهجوم على أتلانتا، الذي وصفته الصحيفة بأنه واحدٌ من أخطر الهجمات السيبرانية ضد مدينةٍ أمريكيةٍ كبيرة، اخترق الثنائي نظامها الحاسوبي واحتجزا البيانات رهينة، وطلبا فديةً بعملة البيتكوين تُقدَّر قيمتها بقرابة 51 ألف دولار أمريكي. وقال المُدَّعون إنَّ المتهمين جمعا قرابة 6 ملايين دولار أمريكي بعملة البيتكوين من الهجمات.
وذكرت الصحيفة أن المخترقين تواصلا مع علي خورشادي زاده -29 عامًا- ومحمد غربانيان -31 عامًا-، وهما تاجران محليّان، عبر تطبيق واتساب لاستبدال الريالات الإيرانية ببعض عملات البيتكوين التي يمتلكانها.
وظن غربانيان أن اسمه ورد في الأخبار عن طريق الخطأ، بحسب الصحيفة، حين أخبره أحد أصدقائه بذلك في 28 نوفمبر (تشرين الثاني). واكتشف لاحقًا أن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية فرض عليه وعلى خورشادي زاده عقوباتٍ تشمل عناوين البيتكوين التي استخدماها، إذ إن تلك العناوين كانت مربوطةً بمواقعهما على الإنترنت مما سهَّل تعقُّب اسميهما.
ولكن غربانيان عاد إلى مزاولة أعماله في الأسبوع التالي، مستخدمًا عنوان بيتكوين جديد -ومجهول هذه المرة- أنشأه في خمس دقائق، وذكر أن خطأه الوحيد كان التعامل بعنوان بيتكوين عام. وقال في تصريحاته لصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية: «أرجو أن تُعلِموا الجميع أنني لا أعلم من أين يأتي عملائي بأموالهم، مثل أي تاجرٍ أو بنك. أنا أُتاجر فقط ولست مُخترقًا. ولا علاقة لي بأولئك الأشخاص. ما يزال اسمي تحت العقوبات، لكننا لا نستخدم الأسماء على شبكة الإنترنت. وزارة الخزانة لم تفعل سوى البحث عني على موقع جوجل. لكنني لن أرتكب الخطأ نفسه مُجدَّدًا».