منيرة بالوش
حرقت نار الحرب خلال سبع سنين عجاف الأخضر واليابس، وقلبت الدنيا رأسا على عقب، وخلفت كوارث جمة؛ لا نعلم إن كان الزمن كفيلاً بإصلاحها أم لا.
ولكن كل هذا الدمار والخراب من بنى تحتية وفوقية، لا يعادل صرخة طفل ينازع تحت الأنقاض، أو طفل عصرته رحى الحرب وشدت الخناق عليه وأذاقته لباس الجوع والخوف وهو لايزال في غيبوبة عن هذا العالم الأخرق الذي حرمه طفولته وسلبه أمنه وحقه في الحياة.
(عدنان) طفلي الصغير، وُلد والثورة معاً، وأصبح يملك من خبرات الحرب ما نملكه نحن وأكثر، وامتلأت ذاكرته الغضَّة بأحداث وتساؤلات يعجز لساني عن إجابتها.
قال لي مرة: (ماما جيبيلي طيارة..) فتبسمت، وما إن هززت رأسي وقلت إن شاء الله حتى قاطعني قائلا: (ومعها برميل كمان).
صعقني لوهلة! فما الذي جعل من ذلك البرميل اللعين حلماً لطفلي ولعبة يلهو بها؟! وكيف جادت مخيلته بهذه الأفكار ليحولها من أداة موت إلى لعبة يحلم باقتنائها؟! أم أنَّه مازال يعتقد أنَّ ما نحن فيه هو ضَربٌ من اللعب والتسلية، وما أصوات القذائف والطيران إلا فقاعات لأفراح تعلو في السماء كما كنت أقول له عندما تمطرنا الطائرات بصواريخ وبراميل تحرق الأرض وتشعلها وتقلب ليلها نهاراً.
فهنا لا مكان للخوف، ويجب أن نكون أقوياء لأجلهم حتى ولو كذبنا عليهم، كان عليَّ ألا أشوه صورة الطائرة في عينيه اللامعتين، وألا أخبره أنَّ هذه الطائرة التي تحلم باللعب بها أصبحت حارقة لحوم الأطفال.!!
“لا مكان للأطفال” بهذا العنوان أصدرت منظمة الأمم المتحدة القلقة دوما (اليونيسف) تقريرها حول أطفال سورية حاملا أرقاما مرعبة عن واقعهم، حيث كشف أنَّ 8 ملايين و400 طفل تأثروا جراء الحرب، أي بواقع 80% من أطفال سورية سواء كنازحين داخلها أو كلاجئين في الدول المجاورة.
إذ لا مكان للطفولة في خيمة النزوح ولا على الحدود، فهنا قد تساوت الأعمار والكل لاجئ أو نازح أو مشرد دون مراعاة لحقوق هشاشة عظام هذا الطفل ومراعاة عقله القاصر عن استيعاب ما يحدث حوله!
وأضاف التقرير أنَّ 3 ملايين و700 ألف طفل سوري -أي ما يعادل واحد من بين ثلاثة أطفال ولد منذ بدء النزاع- لم يعرفوا إلا العنف والخوف والنزوح في حياتهم القصيرة.
هذا دون أن ننسى حقهم في التعليم، فقد ضاع جيل كامل ونسيت أصابعه كيف تمسك القلم، وربما استغنى بالبندقية ورأى بها خلاصه من هذا الواقع، فقلم الرصاص لم يعد ينفع أمام الرصاص!
التقديرات أشارت إلى أنَّ أكثر من مليوني طفل داخل سورية و700 ألف في البلدان المجاورة هم خارج المدارس. وبالتالي فإنَّ الأطفال هم أكثر الفئات تضررا من كل النواحي النفسية والصحية والفيزيولوجية والتعليمية، وكل ما لحق بهم من صدمات نفسية تظهر آثارها على المدى البعيد، وهناك مصطلح بالطب النفسي يطلق عليه ما بعد الصدمة، أي النتائج السلبية التي يتأثر بها الشخص جراء الصدمات النفسية الناجمة عن الحروب، وتتمثل بانتشار الأمراض النفسية والمشكلات الاجتماعية وبعدم القدرة على تجاوز ما مروا به، فظروف الحرب والتشرد والقتل من أكثر الأمور رسوخا في الذاكرة.
ولأنَّ الأطفال يصعب عليهم التعبير عن الشعور والحالة النفسية التي عاشوا بها، يقوم العقل باختزانها، وتترجم إلى مظاهر الخوف والقلق والاكتئاب إذا لم يتمكن الأهل من مساعدة الطفل على تجاوزها.
إذاً كيف أحمي طفلي من تأثيرات الحروب؟
علينا أولا توفير الجو الهادئ والمستقر بقدر الإمكان حتى يعتاد الطفل على محيطه وأشيائه وألعابه بعيدا عن التنقل والنزوح ليشعر بالأمان، وهنا يأتي دور الأسرة في تبسيط الأمور التي تحدث حتى يستطيع الطفل استيعابها، ويجب الإجابة على تساؤلاته مهما كانت لتزول مخاوفه وقلقه.
ولا ننسى أن نشغلهم بنشاطات رياضية وهوايات متعددة لإبعاد تفكيرهم عن الماضي والحروب التي واجهوها.
وأخيرا الكثير الكثير من الحب والحنان لهؤلاء الأبطال الصغار الذين قضوا معنا كل سنوات الثورة وصبروا وصمدوا وأصبحوا مصدر قوتنا وسعادتنا، فإنَّهم مقبِلون على الحياة بعقول كبيرة وأنامل غضة ستمسك القلم وتبني المجتمع وتحمي الوطن… فهم ولدوا كباراً.