أحمد فوزي سالم |
لا يمكن أن تكون تابعت تصاعد حمى الصراع بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة العام الماضي، والسباب المتبادل بين مسئولي البلدين على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل أن يتصالحا لاحقا، ولم تشاهد مذيعة الصواريخ «ري تشون هي» ــ كما يسميها الغرب ــ بصوتها الرخيم، ومقدماتها القتالية التي تشبه بيانات الحرب العالمية الأولى، لإذاعة الجديد من مواقف الأخ «كيم»، ورغم إخلاصها الشديد للنظام، إلا أنه أبعدها بشكل مفاجئ، وجعل من عزلها قربانًا يؤكد به رغبته في الانفتاح على العالم.
كما هو أي نظام ديكتاتوري، عندما يبتكر طريقة جديدة لتغيير جلده أمام العالم، فيضحي في أوسع ميادينه شهرة بأهم المخلصين له، الذين دعموا أركان حكمه، وساهموا في تضخيم صورته الوحشية داخليا وخارجيًا كما أرداها، ويأكل دراويشه دون الحاجة لإنشاد لحن صوفي مناسب، لجأ النظام الكوري لإحالة «ري» البالغة من العمر 75 عاما للتقاعد، وهي التي ارتبطت بأمجاده الخطابية، وصنعت له شهرة كبرى على مواقع التواصل بجميع أنحاء العالم، وقرر الدفع بمذيعين شباب، بزعم تحديث الرؤية الإعلامية، التي تتطلب دماء جديدة.
ولدت المذيعة المخضرمة أو «الجدة ري» كما تحب أن يطلق عليها، عام 1941، فى مقاطعة تونغتشون الكورية الشمالية، لعائلة فقيرة، إلا أن ضيق الحال لم يمنع الإبنة المدللة من دراسة فنون الأداء فى جامعة بيونغ يانغ للمسرح والسينما، وظهرت للمرة الأولى فى التلفزيون الكورى الشمالى عام 1971، ثم جرى تصعيدها لتصبح مذيعة الأخبار الرئيسية فى التلفزيون الكورى الشمالى منذ عام 1974.
تفوقت الجدة ري على جميع أقرانها، طوعت دراستها للسينما والمسرح في صنع خلطتها التي مزجت بين الأداء الدرامي والالتزام الأيدولوجي الصارم، مما جعلها أفضل من يتحدث لدى النظام وبشكل مبتكر عن السلاح النووي والصواريخ الكورية الشمالية؛ نجحت الإعلامية الشابة أنذاك في تثبيت هيئة خاصة بها، وأولها المواظبة على ارتداء ملابس هانبوك التقليدية الوطنية المعروفة باللون الوردي، فٌلقبت في الأوساط الثقافية والشعبية بالسيدة الوردية، وبناء على هذه المقومات، أصبحت كبيرة المذيعين في ثمانينيات القرن الماضي.
انقلبت الأوضاع الاجتماعية للمذيعة الوردية؛ أصبحت على درحة عالية من الثراء، مما مكنها من الاستحواذ على قصر فخم بالعاصمة بيونغ يانغ، تعيش فيه حاليًا مع عائلتها، وصاحب الثراء نفوذ واسع داخل الآلة الإعلامية الكورية، جعلها تكتفي خلال السنوات الماضية بتقديم نشرات الأخبار فقط، ولم تكن تذهب للعمل إلا لإذاعة الأخبار الهامة، أو الملتهبة على وجه التحديد، التي يكون النظام في حاجة لإيصال صوته للرأي العام الداخلي والخارجي، عبر جرعات كبيرة من الأدريناليين، الذي تنثره الخطابات الحربية لـ«ري».
طوال العقود الماضية، كان النظام الكوري يعتبر «ري» مذيعة الشعب، وبدورها التقطت الرسالة جيدًا وجعلت من نفسها منذ بداية ظهورها لأول مرة في التليفزيون الكوري المعروف بـ«KCTV»، وعلى مدار أكثر من خمسة عقود، الإبنة البارة للنظام، وهذا الإخلاص الشديد، لم يتسرب لأجنحة الحكم المختلفة والشعب في كوريا، بل التقطته أغلب الدوائر المعنية برصد الأداء الإعلامي في شتى أنحاء العالم، وباتت تعتبر «الجدي ري» الصوت الرسمي لبروباغندا ودعائيات كوريا الشمالية.
«ري» تعلن وفاة الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ آل عام 2011
ري والشيوعية الحديثة لكيم جونغ .. لاتصالح
الانقلاب المفاجئ في السياسة الكورية الشمالية، وحالة التقارب غير المتوقعة مع الولايات المتحدة، والتصالح مع النظام العالمي الذي تخلف عنه النظام الكوري طويلا، وانكفئ على نفسه يتخبط في تعاليم شيوعيته، استلزم معه إخفاء المذيعة المخضرمة، وإبعادها عن الشاشة، بل وضرب السياسة الإعلامية ونسف كل ما بنته «الجدة ري» التي كانت تجهز كوادر شابة، تستطيع مواصلة ما بدأته بما يضمن للنظام الكوري حياة أطول.
تناسي النظام حبكة «ري» طوال العقود الماضية، وبراعتها في أسلوب الدعاية الحربية الذي أسسته في الإعلام الكوري الرسمي، وبذلت كلِ في إمكانها تقديمه لإعطاء صورة شيطانية قاتمة عن خصوم بلدها وحكامه، وتفننت في طبع صورة ذهنية للشعب عن الأعداء الخطرين للبشرية وللحرية، واستطاعت حشد رأي عام يؤمن بأهمية امتلاك الشمال الكوري، أسلحة دمار شامل يمكنها من مواجهة الإرهاب الأمريكي والأوروبي وعدوانهم المتوقع على بلدهم، وكانت مقدماتها الطويلة حافلة بتأليف القصص المبتكرة في تشويه صورة الخصم، وإخافة الرأي العام منه وميوله ونواياه تجاههم.
بعد تقارب كيم وترامب، أصبح الأسلوب النادر للإعلام الكوري الذي صنعته المذيعة الوردية العجوزة، لا يناسب المرحلة الحالية، بعدما كانت حتى وقت قريب تُستدعى من منزلها رغم إعلان إعتزالها الإعلام عام 2012 لقراءة الاخبار غير التقليدية، فلم يكن يثق النظام في غيرها لحصد الصدى المناسب، من إذاعة أخبار التجارب النووية، ولاتُنسى فرحتها الطفولية على الشاشة خلال إعلانها تجربة بلادها للقنبلة الهيدروجينية بنجاح كبير، في خطوة ناجزة بمشوار البرنامج النووي الكوري الشمالي.
النظام الكوري الجديد .. الغموض سيد الموقف
لا يعرف العالم حتى الآن من ملامح الدولة الشيوعية الجديدة، وفق شعار مواكبة القرن الجديد واتجاهاته، الذي أطلقه الزعيم الكوري الشاب إلا تغيير «الجدة ري»، والتوسع بشكل ملحوظ في نقل أخبار العالم الخارجي، وبشكل خاص كوريا الجنوبية، بعدما كان الأمر مقتصرًا على الدعائيات والتقارير التحريضية كلما اقتضى الأمر، فضلاً عن التأكيد دائما على الإخلاص لأيديولوجية وأفكار الزعيم المؤسس«كيم جونغ سونغ» الذي تقتات على ثوابته ثلاثة أجيال حتى الآن، عايشتهم المذيعة الوردية، وحفظت أدبياتهم عن ظهر قلب، وكانت ترى فيهم عظمة الأمة وسر مجدها، ودونها لايمكن التأكد من إخلاص كل من يعيش على ظهر هذه البلاد.
وتشير مؤشرات إبعاد المذيعة المخضرمة إلى أن كوريا الشمالية، التي كانت حتى الأشهر القليلة الماضية أحد بقايا زمن الأساطير، بسبب عزلتها وانغلاقها منذ ميلاد شكلها الجديد في أعقاب فوضى نهاية الحرب العالمية الثانية، على موعد مع انقلاب ناعم على أفكار مؤسسها وزعيمها الأول كيم إيل سونغ، الذي شكل سياسة البلاد لأكثر من خمسين عاما.
ورغم التوجه الحداثي لكوريا خلال الأشهر الماضية، إلا أنه من الصعب للغاية، توقع الزعيم الشاب بشخصية أخرى، غير هيئة «نيرون أسيا» التي ولد سياسيا بها، ومن خلالها سيطر بقسوة مفرطة على الحكم، ودعمها بخبرة لاتتناسب مع سنة في كيفية بسط يد الدولة القوية على مفاصل الحياة في بلاده، وتعزيز أيدلوجية عبادة الزعيم عبر ارتكاب انتهاكات كارثية لحقوق الانسان، لدرجة أن صراعاته من أجل الانفراد بالسلطة، تواكبت مع شائعات أغرقت الداخل والخارج عن استخدامه وسائل مبتكرة في التعذيب والانتقام، وضرب خصومه وهم عُزل بمدافع صواريخ، وقتل عمه بدانة دبابة، إلى غيرها من الصورة الهرقلية التي صنعها لنفسه طوال الأعوام الماضية.
كما لم تتضح حتى الآن، ما هي الخطة البديلة لاستبدال محتوى الأخبار التقليدي بآخر حسب التوجه الجديد، ولا كيف ستدار السياسة الإعلامية التي كانت دعائية بامتياز، وثابثة على نحو رتيب في الراديو والتلفزيون منذ خمسة عقود، وأغلبها موجه لبث دعاية حكومية دون غيرها، والتفنن في إعداد تقارير تمجد الزعيم الأعلى، وتصنع من أخباره وسهراته مادة جاذبة للجماهير.
ولاتحظى الكوادر العاملة بالميديا الكورية بأنواعها المحدودة، بأي خبرة في فنون الإعلام، ولم تضبط يومًا بمواد تكشف الأوضاع الحقيقية عن الصعوبات الاقتصادية، التي تصيب البلاد بين الحين والأخر، وتنعكس هذه الأزمة على الإعلام العالمي، الذي لايستطيع بدوره لا العمل داخل البلاد، أو النقل عن الإعلام الكوري، باستثناء البيانات شبه الحربية، خلال الأزمات التي تكون كوريا الشمالية طرفًا فيها، وكانت تستحوذ على هذه الطلة بامتياز «الجدة ري» .
المصدر: نون بوست