البعض يطلق عليه الابتكار، ويسميه آخرون التكنولوجيا، أو «إنترنت الأشياء». يمكنك أن تصفه بأنه رائع أو أنه ذلك الفيروس الرهيب الذي يتغلغل في كل مكان. مهما كان توصيفك لـ«جوجل»، فإن الأمر الوحيد المؤكد هو أنه يستحوذ على حياتنا، ويتغلغل وسط كل اهتماماتنا.
لا يمكن لأحد أن ينكر أن هناك تأثيرًا نافعًا كبير للعملاق التكنولوجي «جوجل» على حياتنا في هذه السنوات العشر الأخيرة، حتى أصبحنا لا نستغني عن واحدة من خدماته وتطبيقاته على الأقل. هذا ليس شيئًا مفاجئًا على الإطلاق. لكن بمجرد أن تفكر في كل تلك الاختراعات من «جوجل»، وكيف تتغلغل التكنولوجيا في كل جانب من جوانب حياتنا، فإن هذا سيبدو لك أمرًا مرعبًا بالفعل، لدرجة قد تجعلك تتسائل: متى وكيف حدث كل هذا دون أن نشعر به؟
في المقابل ظهرت تأثيرات سلبية عديدة لجوجل على حياة الشخص العادي، والتي لا تحظى بالاهتمام اللازم لبيان خطورتها وجانبها السلبي الكبير.
التكنولوجيا تعني «مزيدًا من الغباء»
«هل الإنترنت يجعلنا أغبياء؟». سؤال مهم ربما لم يأخذه الكثيرون بالجدية اللازمة. أنت تطبع سؤال صغير على لوحة المفاتيح، ثم تضغط Enter، وعلى الفور، تظهر مجموعة من الإجابات والمقالات على الشاشة. إنه شعور مزعج أن تتحول إحدى غرائزنا البديهية، ونقصد هنا الانتقال إلى جوجل بمجرد أن يدور سؤال ما في رأسنا، إلى السبب وراء زيادة غبائنا. ربما يمكننا وصف بحث عبر «جوجل» بأنه البحث عن مدى غبائنا، فنحن حتى لا نحفظ أي معلومة، لماذا نفعل هذا ما دام «جوجل» موجود.
وتشير دراسة حديثة إلى أن 90% منا يعانون من «فقدان الذاكرة الرقمي أو digital amnesia»». أكثر من 70% من الناس لا يعرفون أرقام هواتف أطفالهم عن ظهر قلب، و49% لم يحفظوا رقم شريك حياتهم. ففي حين أن أولئك الذين نشأوا في عالم «الهواتف الأرضية» فقط قد يتذكرون أرقام أصدقاء أصدقائهم حتى، فمن غير المرجح أنهم يعرفون حتى أرقام هواتفهم النقالة الشخصية، فهواتفنا الذكية تؤدي كل العمل اللازم هنا.
وخلص بحث أجرته The Kaspersky Lab»إلى أننا لا نحفظ أو نلتزم بمعرفة أي بيانات تخص الذاكرة بسبب «تأثير جوجل أو Google Effect» – نحن آمنون فيما يتعلق بالمعرفة؛ لأن الإجابات ليست سوى نقرة واحدة نفعلها. نحن سعيدون أن نعامل الويب كإضافة إلى ذاكرتنا الخاصة.
طبقًا لتقرير حول «تأثير جوجل» نشرته صحيفة «الإندبندنت» البريطانية، فقد عملت الدكتورة ماريا ويمبر، وهي محاضرة في كلية علم النفس بجامعة بيرمنجهام، مع شركة أمن الإنترنت في أبحاثها. وتعتقد أن الإنترنت يغير ببساطة الطريقة التي نتعامل بها مع المعلومات ونخزنها، لذا فإن «تأثير جوجل» يجعلنا جيدين في تذكر المكان الذي سنعثر فيه على جزء معين من المعلومات، ولكن ليس بالضرورة أنه سيجعلنا جيدين فيما يتتعلق بماهية المعلومة نفسها. فمن المحتمل أن يكون صحيحًا أننا لا نفعل ذلك: محاولة تخزين المعلومات في ذاكرتنا الخاصة بنفس الدرجة التي اعتدنا عليها، لأننا نعرف أن الإنترنت يعرف كل شيء.
هذه النتائج كانت تكرار لأبحاث بيتسي سبارو من جامعة كولومبيا حول تأثير جوجل على الذاكرة، والتي خلصت إلى أن أدمغتنا تعتمد على الإنترنت من أجل الذاكرة بنفس الطريقة التي يعتمدون فيها على ذاكرة صديق أو أحد أفراد الأسرة أو زميل في العمل. نحن نتذكر أقل من خلال عدم معرفة المعلومات نفسها بل معرفة أين يمكن العثور على المعلومات.
«جوجل» يهيمن والذاكرة تتراجع
في مقالة نُشرت في مجلة «الذاكرة» «Memory Journal»، وجد باحثون في جامعة كاليفورنيا وجامعة إلينوي، أن «التفريغ المعرفي»، أو الميل إلى الاعتماد على أشياء مثل الإنترنت، باعتبارها مذكرًا لنا، يزداد تدريجيًا بعد كل استعمال. ربما كنا نظن أن الذاكرة هي شيء ما يحدث في الرأس، ولكن، وعلى نحو متزايد، أصبحت شيئًا يحدث بمساعدة من وكلاء، خارج نطاق أدمغتنا وعقولنا.
وقد أجرى الباحثون تجاربَ لتحديد الاحتمالات التي ستجعلنا نحاول الوصول إلى جهاز الكمبيوتر، أو الهاتف الذكي؛ للإجابة على أسئلة معينة تظهر لنا. وجرى تقسيم المشاركين في هذه التجارب إلى مجموعتين، للرد على بعض الأسئلة شديدة السهولة، لكنها تحتوي على تحدٍّ ما. واستخدم أفراد إحدى المجموعتين ذاكرتهم فقط للإجابة عن هذه الأسئلة، بينما استخدم أفراد المجموعة الثانية محرك بحث جوجل.
بعد ذلك، أتيح للمشاركين خيار الإجابة عن أسئلة تالية أكثر سهولة، ليجيبوا عنها بالطريقة التي يرغبون بها، إما بذاكرتهم أو باستخدام «جوجل».
وكشفت النتائج أن المشاركين الذين استخدموا الإنترنت أو «جوجل» للإجابة والحصول على المعلومات الخاصة بالأسئلة الأولى، مالوا بشكل أكبر للعودة إلى استخدام «جوجل» للإجابة عن الأسئلة التالية، رغم أنها بالغة السهولة. هؤلاء كانت نسبة استخدامهم لـ«جوجل» أكبر بكثير من المجموعة الثانية، المعتمدة على ذاكرتها من البداية.
وأمضى المشاركون وقتًا أقل في التشاور مع ذاكرتهم الخاصة بهم قبل اللجوء إلى شبكة الإنترنت. الأهم أن احتمالات استخدام المشاركين لذاكرتهم لم تكن قليلة فقط، بل إن حتى الفترة الزمنية المستغرقة من أجل مشاورة ذاكرتهم، بشكل طبيعي، أصبحت أقل بشكل واضح مع كل مرة. وأظهرت هذه التجارب أن 30% من المشاركين، الذين استشاروا محركات البحث منذ البداية للإجابة عن الأسئلة، لم يتمكنوا حتى من محاولة الإجابة عن أي سؤال بسيط عبر ذاكرتهم فقط.
وعلق الباحث الرئيسي في هذه الدراسة، بنيامين ستورم، قائلًا: «الذاكرة تتغير، تشير أبحاثنا إلى أنه وخلال استخدامنا شبكة الإنترنت لدعم وتوسيع ذاكرتنا الخاصة، فإن النتيجة تصبح عكسية، نحن نصبح أكثر اعتمادًا على الإنترنت بدلًا من استخدام ذاكرتنا». وأوضح أننا في حين كنا قبل ذلك نحاول استعادة ذكرى ما، أو شيء ما من أدمغتنا باستمرار، فإننا الآن لا نحاول إزعاج أدمغتنا، ونتركها في وضع الكسل. وذكر ستورم أنه كلما توافرت المزيد من المعلومات، عبر الهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة، فإننا نصبح أكثر اعتمادًا عليها بشكل تدريجي في حياتنا اليومية، وبالطبع يأتي هذا على حساب قوة ذاكرتنا الطبيعية.
تأثير «جوجل» يصل حتى إلى الصور
ويمتد هذا الأمر حتى للصور. فقد وجدت دراسة أجرتها جامعة فيرفيلد عام 2013 أن التقاط الصور يقلل من ذاكرتنا. وطُلب من المشاركين أن ينظروا حول متحف، وكان أولئك الذين التقطوا صورًا لكل كائن موجود حول المتحف يتذكرون عددًا أقل من الأشياء والتفاصيل المحيطة بهم، مقارنة بأولئك الذين لاحظوها ببساطة.
تقول الدكتور ماريا ويمبر: «يمكن للمرء أن يتكهن بأن هذا يمتد إلى الذكريات الشخصية، نظرًا لأن النظر باستمرار إلى العالم من خلال عدسة كاميرا الهاتف الذكي الخاصة بنا قد يؤدي بنا إلى الثقة في هواتفنا الذكية لتخزين ذاكرتنا بها. وبهذه الطريقة، نولي اهتمامًا أقل للحياة نفسها ونصبح أسوأ في تذكر الأحداث التي مرت حياتنا الخاصة».
يقال أحيانًا إننا نعيش في العصر الذي لا يقدر قيمة الذاكرة، هذا الأمر يبدو أنه جاد ومقلق، في ضوء الدور الهام والحيوي للذاكرة المتعلق بالمعنى. وتأتي فكرة أنه لا قيمة لذاكرتنا من وجود بدائل لا حصر لها للاحتفاظ بالذكريات، فالهواتف النقالة تجعلنا نحتفظ بأرقام الهواتف، بعدما كنا نحفظها في الماضي عن ظهر قلب. الآن نلاحظ أن جميع ذكرياتنا أصبحت تتواجد على هواتفنا وحواسيبنا، في صورة صور وفيديوهات رقمية، بدلًا عن أن تكون هذه الذكريات متعلقة في أذهاننا فقط؛ نتيجة لذلك فإن تجاربنا الهامة وذكرياتنا الأبرز تتراجع من ذاكرتنا؛ لأننا أصبحنا نُسجلها صورةً يتم تداولها.
هذا الأمر يجعلنا أقل قدرة بكثير على التذكر المباشر للتجربة الأصلية، وتصبح الصور هي وسيلتنا للتذكر. وكثير منا يلاحظ أنه لا يستطيع بالفعل تذكر لحظات هامة جدًا في حياته، إلا بعد أن تعرض عليه صورة معينة تذكره بها، بينما كان أجدادنا يحكون لنا أهم ذكريات حياتهم بالتفاصيل المملة. على سبيل المثال، إن كنت متزوجًا منذ 10 سنوات، هل تستطيع إخبارنا بما كانت ترتديه زوجتك في أول مرة شاهدتها فيها؟ لكن اذهب لجدك وسيخبرك بتفاصيل قصته العاطفية، والنظرة الأولى، وكل ما جرى حولها من تفاصيل.
نتيجة لهذه الأمور، فقد أصبحت حياتنا منحازة لصالح الأمور البصرية والتشاركية أكثر من أي وقت مضى. المشكلة أن الأمور البصرية هي الأكثر هدوءًا، والأقل عاطفية من جميع الأشكال والأنماط الأخرى. كما أن ما نتشاركه من ذكريات ينحاز تجاه ربط ذكرياتنا بالأوقات الجميلة والسعيدة، وهو ما يمكن أن يكون مخالفًا للحقيقة التي كنا عليها في ذلك الوقت. وبالتالي فإن ذكريات حياتنا تصبح أقل سماكة، وأقل صدقًا مما هي عليه فعلًا.
خرائط «جوجل».. تُفقدنا الإحساس بالمكان
يمكن أن تكون «خرائط جوجل أو Google Maps» رائعة للعديد من الأسباب: فهي تجعلك تصل من النقطة A إلى النقطة B، بأسرع طريق ممكن. ولكن وجود خرائط افتراضية في جيبك الخلفي في جميع الأوقات قد يكونمشكلة أكثر مما تعتقد. تطبيقات مثل خرائط جوجل التي تعطيك الاتجاهات، قد تكون أكثر من مجرد وسيلة لاكتساب دقائق قليلة من وقت الرحلة. في الواقع، خرائط جوجل قد تضر أدمغتنا أيضًا.
وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة «ناتشر»، وأجرتها الكلية الجامعية في لندن، فإن الأشخاص الذين يتنقلون من مكان لآخر باستخدام ذاكرتهم، لديهم قدرة ذهنية أكثر من أولئك الذين يعتمدون على التطبيقات، وأجرى علماء الأعصاب هذه الدراسة من خلال إرسال أكثر من 20 مشاركًا إلى شوارع أحد الأحياء المزدحمة في العاصمة البريطانية لندن. ثم اختبروا هؤلاء الأشخاص؛ لمقارنة كيف تعلم أولئك الذين استخدموا التطبيقات الخاصة بالخرائط مقابل أولئك الذين يتنقلون باستخدام ذاكرتهم، عن طريق جعلهم يتجولون في الحي عبر محاكاة في اليوم التالي.
عندما أجبر الأشخاص على التنقل بمفردهم، رأى العلماء «نشاطًا متحركًا للحصين يعتمد على شبكة الشارع» (الحصين هو منطقة هامة من الدماغ لها دور رئيس في عمليات الذاكرة)، حسب ما ذكرت مجلة «Popular Science»، على النقيض من ذلك، عندما كان الناس يتبعون الاتجاهات عبر تطبيق الخرائط، اختفت العلاقة بين نشاط الدماغ وتعقيد الشوارع، هذا يعني أنه عندما لا تستخدم دماغك في تحديد الاتجاهات، فهذا هو الحال عندما تتوقف عن استخدام عضلة وضمورها. وهذا أمر قد لا يكون جيدًا بالنسبة لك؛ إذ إنه من الأفضل إعطاء دماغك تمارين أكثر قليلًا.
يجب أن نخشى «جوجل»
يعتقد نيكولاس كار، مؤلف كتاب «الأشياء الضحلة: كيف يغير الإنترنت الطريقة التي نفكر بها ونقرأها ونتذكرها» ، أنه ينبغي علينا أن نشعر بالذعر.
ويقول: «نحن لا ننتبه إلى الخطر الحقيقي، أن الذاكرة البشرية ليست هي نفسها ذاكرة الكمبيوتر. ذاكرتنا تنشأ من خلال تذكر أننا نرتبط مع ما نعرفه، وما نشعر به، هذا هو ما يثير المعرفة الشخصية. إذا لم نكون روابط ثرية في عقولنا، فإننا لا نخلق المعرفة، فالعلم يقول لنا إن تقوية الذاكرة ينطوي على الانتباه: إنه العملية التي تشكل هذه الروابط».
ويعتقد أن الجمع بين تأثير «جوجل» والتشتيت المستمر للهواتف الذكية؛ مما يوفر معلومات باستمرار، أمر مثير للقلق. توصلت دراسة أجرتها «مايكروسوفت» إلى أن متوسط انتباه الإنسان انخفض من 12 ثانية في عام 2000 إلى ثماني ثوان عام 2015.
وحسب كار، هناك سطحية في كثير من تفكيرنا، ليس فقط الجانب المعرفي، بل الجانب العاطفي أيضًا. ذلك لا يقلل فقط من الثراء في حياة المرء وحسه الذاتي، ولكن إذا افترضنا أن التفكير العميق والغني ضروري للمجتمع، فسيكون له تأثير ضار على ذلك، سيكون هناك دائماً أناس يعارضون هذه الاتجاهات، لكنه يعتقد أنه سيكون لها تأثير في جعل أنفسنا وثقافتنا ضحلة قليلاً.
يعتقد كار أن أدمغتنا لا تشبه محركات الأقراص الصلبة، أو الثلاجات التي يمكن أن تحصل على تراكمات، لذلك لا يوجد مجال آخر. «ليس الأمر كما لو أن التذكر والتفكير عمليتان منفصلتان. وكلما تعلمت أكثر، كلما كان لديك المزيد من المواد التي تحتاج إلى العمل عليها، والأرجح أن تكون أفكارك أكثر إثارة للاهتمام».
لكن هناك وجهة نظر مختلفة
لكن هل كل ما سبق يجعلنا بالفعل أكثر غباء؟ لا تعتقد عالمة الأنثروبولوجيا جينيفيف بيل، نائب الرئيس في شركة «إنتل» ومدير مجموعة الشركات والاستشعار المؤسسي للشركة ذلك؛ إذ تقول إن التكنولوجيا «تساعدنا على العيش بشكل أكثر ذكاء» من خلال إمكانية وصولنا إلى الإجابات.
وتوضح أن القدرة على إنشاء سؤال جيد هو عمل من أعمال الذكاء، لأنك تعمل بسرعة على تحديد المعلومات التي تريد استخراجها وتحديد التطبيق المناسب للمساعدة في تحقيق ذلك. بالنسبة لها، هذا يشير إلى مستوى من التفاعل مع العالم المحيط.
تعطي مثالًا عن أم جديدة تحاول أن تحدد ما إذا كان طفلها الذي لا ينام هو أمر سيء أم لا، ومتى عليها البدء في الشعور بالقلق. هذه كلها أسئلة قد تكون التكنولوجيا قادرة على معالجتها بشكل أسرع من استدعاء والديك في منتصف الليل. وتؤكد: «هذا لا يجعل المستهلكين أكثر غباءًا، بل يساعدهم على التفكير بشكل أذكى».
ربما يجب أن تكون أكبر مخاوفنا هو عقليتنا تجاه التكنولوجيا. بحسب جينيفيف التي توضح:«شكوكي هي أن استخدام التكنولوجيا لا يجعلنا أغبياء، بل يجعلنا مجموعة إنسانية للغاية مليئة بالمشاغل والقلق، في نهاية المطاف هو القلق بشأن ما تعنيه التكنولوجيا بالنسبة لنا ، وما يعنيه لإنسانيتنا وأجسادنا وكفاءتنا – وما يعنيه أن تكون هناك تقنيات جديدة تهدد بعضًا من هذه الأشياء».
المصدر | ساسة بوست