منيرة بالوش |
يشكل هاجس الحفاظ على اللغة العربية في بلد اللجوء أصعب المعضلات التي يواجهها الأهالي بالنسبة إلى أطفالهم، سواء المواليد الجدد أم الأطفال الصغار الذين وجدوا أنفسهم في محيط غربي يتحدث لغة أخرى ربما أسهل وأسرع في النطق والحفظ من اللغة العربية.
هذا الصراع القوي بين اللغة العربية واللغة الجديدة تواجهه السيدة (نور دبسي) المقيمة في بريطانيا منذ خمس سنوات مع أطفالها ولاسيما “جوليا” ذات الأربع سنين منذ دخولها الروضة مبكراً، والبدء بتعلم اللغة الإنكليزية التي تعتبر بالنسبة إلى مخارج الحروف وطريقة النطق وعدد المفردات أسهل بكثير من اللغة العربية، فتعلمت بحكم تكلم محيطها ورفاقها باللغة الإنكليزية، فيما اقتصر التحدث باللغة العربية على الأب والأم في المنزل.
لا تخفي “دبسي” خوفها من فقدان السيطرة على تعلم ابنتها اللغة العربية، بل تبذل جهدًا في تعليمها الأحرف العربية، حيث أخبرتنا بتعليق لوحة كبيرة في إحدى الغرف تحوي الأحرف باللغة العربية بشكل واضح لتبقى أمام ناظر أطفالها وتحفظ في عقولهم بصرياً ولفظياً بتكرار أسماء الحروف وكيفية نطقها، بالإضافة إلى التحدث في المنزل بالعربية فقط.
تقول: “إنها لا تترك وسيلة كاقتناء القصص العربية والتكلم باللغة الفصحى وشرح بعض المفردات لها، بالإضافة إلى التحدث يومياً مع جدتها وأقاربها في سورية، كنوع من ممارسة اللغة بشكل مستمر لكي لا تفقد ابنتها صلة الوصل بين الجيلين (الأجداد والأحفاد) رغم المسافات والغربة”. كما أكدت لنا ذلك.
أما بالنسبة إلى الجهود المبذولة من قبل مدارس الدولة في بريطانيا، فبسبب وجود جالية عربية ومسلمة كبيرة جداً، هنالك خَيار يُعطى للطلاب بتعلّم اللغة العربية كلغة ثانية أو ثالثة عن طريق حصص إضافية أسبوعية، مع العلم أن هذا الأمر مُركّز عليه في العاصمة لندن أكثر من غيرها من المدن، لكنها غير كافية لتعلم اللغة كما يجب، إن لم تكن الأسرة حريصة على ذلك في المنزل.
في بيئة تتكلم الإنكليزية بالشارع والسوق والمدرسة والأصدقاء وغيرهم، يبقى المنزل المكان الوحيد لتحدث العربية والمسؤولية الأكبر تقع على العائلة في الحفاظ عليها.
قابلت صحفية حبر معلمة اللغة العربية الآنسة (نورة محمد) الحاصلة على درجة الماجستير بعلم “اللسانيات والصوتيات” حيث تصلها الكثير من الأسئلة المتعلقة بكيفية الحفاظ على هوية اللغة العربية لدى المغتربين، وأوضحت أن “اللغة العربية كأي لغة تحتاج إلى الممارسة، وتعتمد على السمع والنطق والبصر.”
وقالت أيضًا: “علينا تعريف الأطفال بأهمية اللغة من خلال شرح مزاياها وارتباطها بالقرآن الكريم، وبذلك نهيئهم لتعلم اللغة الفصحى، مع ممارسة الحديث بالمنزل، والاستماع إلى المسلسلات والبرامج باللغة العربية وقراءة الكتب والقصص والروايات، بالإضافة إلى الاستماع” .
ونوهت إلى مشكلة أخرى، حيث يُخشى على الطفل ألا يكون قد تمكن من لغته الأولى وهي العربية ولم يتلقَ أي تدريب عليها، ثم ندرسه اللغة الثانية، ممَّا يخلق لديه حالة من (تداخل اللغات) حيث يفكر بلغة ويتكلم بأخرى، فتختلط قواعد اللغتين ومفرداتهما حسب ما يراه أسهل وأسرع في النطق والحفظ، ممَّا يسبب له إرباكاً وضعفاً في اللغتين أو إحداهما على الأقل. ونتجنب ذلك بحرص الأهل على عدم خلط المفردات معًا ولاسيما في المنزل واقتصارها الحديث على اللغة الأم.
تقيم السيدة (بتول مسلماني) مع عائلتها في بريطانيا منذ ١٤ سنة، وأنجبت أطفالها الثلاثة هناك، تقول لصحيفة حبر: “طالما شكّل اكتسابهم للغة العربية هاجساً كبيراً بالنسبة إلي وزوجي، فهي ليست مجرّد لغةٍ نريدهم أن يتعلموها للتواصل، بل هي نقطةُ التّماس الأولى مع دينهم ونصوصِه وتعاليمه”.
تحرص السيدة مسلماني على تلقين أبنائها اللغة العربية وتحبها جداً وتفخر بها كما قالت، وتتمنى غرس هذا الحب عند أبنائها.
وقالت: “إن أي ضعف في اللغة العربية سيبعد طفلي عن القرآن الكريم وفهمه وقراءته واستيعابه” وهي تتجنب ذلك وتسعى جاهدة للحفاظ على لغتهم العربية نقية دون شوائب اللغات الأخرى.
في ألمانيا لا يختلف الأمر كثيراً عند اللاجئين مع رغبة الأهل بتعلم اللغة الألمانية لتساعد أطفالهم على التكيف مع المجتمع الألماني، من غير أن يحدث ذلك خللاً في لغتهم الأم.
وربما يعتمد بعض الآباء الذين لا يجيدون اللغة الألمانية ولم يندمجوا بالمجتمع بعد، على مساعدة أطفالهم الذين تعملوا اللغة بسرعة من خلال المدارس والأصدقاء وغيرها.
أكثر ما يقلقل اللاجئ السوري (وليد عمر) المقيم في ألمانيا منذ ثلاثة أعوام، وهو أب لأربعة أطفال آخرهم وُلد في ألمانيا، وأكبرهم في 14 من عمره، أن الحفاظ على لغة الأجداد والهوية العربية هو أكبر تحدٍ يواجه اللاجئين السوريين في ألمانيا، وأغلب من يعرفهم يتخوفون من نسيان أبنائهم للغتهم العربية.
مع أن أبناء (وليد) يجيدون الكتابة والقراءة باللغة العربية، لكن اقتصار المحادثات على أهل المنزل يجعل اللغة عرضة للنسيان مع مرور الوقت، وقال لنا: “إن مراكز تعليم اللغة العربية والمساجد هنا لاتحل المشكلة لقلة الساعات الدراسية المقدمة فيها”.
أكثر من ستة ملايين سوري هاجروا منذ نشوب الحرب واحتدام الصراع في سورية، وتوزعوا في تركيا وألمانيا وكندا والسويد وعدة دول أوربية أخرى بصفة لاجئين، بحثاً عن الأمان والحياة الكريمة، والآن يواجهون تحديًا بالنسبة إلى أطفالهم في الحفاظ على لغة آبائهم وهوية أجدادهم وهي اللغة العربية.