أسماء باقي |
مَن منّا مَن لم يضيّع فرصاً عديدة في حياته أو فرصة واحدة ثمينة على الأقل؟ وليس لأمر إلا لأنه اختار عدم المحاولة ورَكُن للحال الغير الراضي عنها. أ مِن الممكن أن يُرادَ لك أن تفكر وتتحرك بهذه الطريقة؟ أن تقول لا بأس في موقف كان يجدر عليك فيه أن تقول سأغيّر هذه الحال للأفضل؟ أم ربما الأمر لا يعدو أن يكون محض صدفة لا تستوجب كل هذه التساؤلات؟
منظومة التعليم المبنية على مبدأ التنقيط توحي إلى أن المتعلّم الأكثر حيازة على نسبة أعلى من النقط هو المتفوّق، أما الأقل تنقيطا فسيتلقى ملاحظة الأستاذ التي تنعته بالضعيف أو مستوى دون المطلوب. ولا النعت سيساهم في تحسين أدائه الدراسي ولا الملاحظة كلية أو حقيقية في تقييمها. والحقيقة أنّ تلقّي المتعلم باستمرار لمثل هذه الملاحظات لن تجعله يبذل مجهودا لتحسين أدائه لأن العجز سيكون قرينه آنذاك.
هذا بالضبط ما أبانت عنه تجربة “مارتن سليكمن” سنة ١٩٧٥ حين عرض كلاباً لصعقات كهربائية بطريقة عشوائية مع منعها من الفرار. بعد المحاولات اليائسة لتجنّب الصعقات، اختارت الكلاب أن تستكين للألم وتعتاد عليه حتى بعد أن فكّ رباطها وصار مسموحا لها بالفرار.
هذه التجربة بالذّات مكّنت “سليكمن” بالخروج بظاهرة “تعلّم العجز” أو Learned helplessness وإسقاطها على سيكولوجية الإنسان وطريقة تفاعله مع التحديات. تم تعميم نظرية “سليكمن” على ميادين عدة من بينها منظومة التعليم وكيف يتم اكتساب العجز وتعلّمه من طرف المتمدرس في محيط هو الأحق بتعليمه العكس تماماً. في تجربة فريدة من نوعها وتطبيقا للنظرية، قامت أستاذة علم النفس “كاريس نيكسون” بتجربة تطبيقية في أحد الأقسام. قسّمت الفصل لصنفين من غير دراية من المتعلمين. وزّعت على الصنف الأول ثلاث كلمات في المتناول مبعثرة الأحرف. أما الصنف الثاني فاختارت له كلمات مستحيلة الحل. وطلبت منهم أن يرفعوا أيديهم حين يجدوا حلّ الكلمة الأولى ثم الثانية فالثالثة.
المفاجأة كانت حيت سألت نيكسون متعلّمي الصنف الثاني عن شعورهم أمام هذا الاختبار بعد أن عجزوا عن حل الكلمات الثلاثة فكانت الإجابات كالتالي: “فقدتُ الثقة في نفسي”، “شعرت بأنني غبي”، “اختلط عليّ الأمر”، “شعرت بالإحباط”. بعدها كشفت أستاذة علم النفس عن حقيقة التصنيف وعن حقيقةٍ أخرى مفادها أن الكلمة الثالثة متشابهة عند الجميع. وعلى الرغم من ذلك عجز الصنف الثاني من التلاميذ في حلها على عكس البقية. وهذه التجربة تفسير لمدى الأثر الذي تكتسيه نظرية “تعلّم العجز” في المدارس ولربما قد حان الوقت لإعادة النظر في الملاحظات التي نوجّهها للمتعلم ومُساءلة مدى فاعليتها.
ما زلتُ أتذكّر أستاذ اللغة العربية الذي بصم بقلمه الأحمر على واجب الإنشاء بملاحظته لي بأن إنشائي دون المستوى وليس لسبب إلا لأنني لم أحبّذ موضوع الإنشاء.. أمّا أستاذ الفلسفة فأكّد لي أنني لست فيلسوفة لكي أسمح لنفسي بطرح الأسئلة والتفكير في المقولة الفلسفية! وإنّي هنا أفكر بعد مضي سنين على ما سبق في كمّ التلاميذ الذين صدّقوا مبدأ تنقيط المدرس لأدائهم وأوهموا أنفسهم بعجزهم عن التميّز بفِعل التكرار المقيت. تعلّمُ العجز في المنظومة التعليمية هو أكثر صفة تدمّر حب التعلم وتوصد أبواب المبادرة والإبداع على فئة هي في أمس الحاجة لإظهار قدراتها وكفاياتها. لتكرار الملاحظات السلبية مع غياب التشجيع الدائم للناشئة أبعادٌ تتجاوز صفوف الدراسة إلى الحياة المعاشة. فالمتعلّم لا يحتاج لمن يختبر أداءه بقدر ما هو بحاجة لمن يتعامل مع مبدإ التنقيط بذكاء.
الأخطر من كلّ ما سبق هو أنّ الإحساس الدائم بالإحباط قد يؤدي إلى الاكتئاب وإلى حالة نفسية ترى من التغيير استحالة مؤكّدة ومن الإيجابية وهماً لا وجود له. بإمكانك الآن كمدرّس، بعد قراءتك لهذا المقال، أن تنتج صفّا كاملاً من صانعي التغيير ومؤمنين بإمكانية الخروج بحلول لجميع المشاكل المجتمعية كما في استطاعتك أن تتحدث بسلبية مع غياب التشجيع على الدوام لترى نتائج الاختبارات والمجتمع كَكلّ بنفس المشاكل ونفس المطبّات.