أنا مجرد ذرات من غازات سامة تمتزج مع الهواء، رائحتي غريبة مميتة، سواء كنت غاز السارين أم الكلور فأنا في كلا الحالين قاتل صامت تحملني صواريخ حربية ترمى بشكل عشوائي على مدنيين محاصرين يموتون قصفاً وجوعاً في الغوطة الشرقية منذ أكثر من خمس سنوات.
ليست المرة الأولى التي أطير بها عاليا في السماء على متن طائرة حربية سورية، ومن ثم أقذف فوق رؤوس الضعفاء لأختلط مع ذرات الهواء، فأغدو نسيما قاتلا يجعل الأطفال يرتجفون من أول شيهق، فتزبد أفواههم، وتضيع ملامحهم، وتجْمُد حدقات عيونهم التي كانت مليئة بالحياة والأحلام، ليختنقوا في دقائق قليلة، فيموتون ويرحلون إلى السماء.
هذه أم اختنقت ببطء وفي عينيها حنين لا ينضب لأطفالها الأربعة، تركتهم في حضن جدتهم العجوز بعد استشهاد والدهم في قصف سابق، وقبل أن يرحل ذلك الطفل الصغير الذي لم يبلغ الثالثة من عمره بعد، كان يمسك بيد أمه مستمتعا بحنانها، أمه الآن تصبُّ الماء على كامل جسده الصغير المرتجف علَّه يعود إلى الحياة، يشهق شهقات متتالية، يصفر وجهه وتغادر روحه جسده المبلول ويغدو طيرا بأجنحة خيالية تغطي مساحة الجريمة التي قُتل فيها مئات الأبرياء.
في غضون دقائق قليلة كان ذلك الطفل الصغير مع أصدقاء كثيرين من عمره وأكبر، قد وصلوا إلى باب الجنة سيبقون هناك منتظرين ليشفعوا لأبائهم وأمهاتهم يوم القيامة، ويكونوا شهودا على جريمة بشعة، وعلى مجرمين هم وحوش لا تعرف معنى للرحمة يقتلون الناس دون ذنب!
أنا الكيماوي كم يبدو تاريخي مؤلما ومحزنا مع أنه لا إرادة لي في قتل الأبرياء، لكن ذكر اسمي صار يثير الرعب في النفوس ويترك كرها وحقدا على حروفي البريئة كبراءة الأطفال الذين ماتوا اختناقا بي.
في المره الأولى لاشتهار اسمي كانت المصيبة الأكبر والأعنف في تاريخ الثورة السورية، نظام الأسد في 21 من شهر آب عام 2013 استعملني لأول مرة، يوم لا يمحى أبدا من ذاكرتي، استشهد فيه 1400 مدني، وكان يوم الطفولة الأكثر حزنا في العالم، الهدايا التي قدمت للأطفال يومها كانت (ذرات سمي القاتل)! تحطمت قلوب الآباء و الأمهات وعادوا إلى بيوتهم المقصوفة دون فلذات أكبادهم!
وفي نيسان 2017 كانت مجزرة (خان شيخون) وكنت أنا الوسيلة التي قتلت أكثر من 80 مدنيا!
وكم أتمنى أن يكون هذا اليوم هو آخر يوم في حياتي، الأحد الثامن من نيسان 2018 صحوت في ( دوما ) هذه المرة وقد كان ليلها نهارا، الحرائق اشتعلت فيها في كل مكان، وكنت أنا القاتل الصامت يظهر اسمي في وسائل الاتصال ونشرات الأخبار مع وسم # كيماوي دوما!
(دوما) آخر ماتبقى من الرقعة الجغرافية للثوار في الغوطة الشرقية لا تزيد مساحتها عن 14 كيلو مترا مربعا ، أهلها لا يريدون مغادرتها ويدفعون ثمن بقائهم على أرضهم، دماء وأرواح تزهق بغازات سامة.
الغوطة الشرقية ذات الأرض الساحرة تحترق تارة وتختنق تارة أخرى، وبين الاحتراق والاختناق تتوالى الأنباء عن اتفاق يعقب اتفاق وفي النهاية كان الفراق ..!!
فراق أرض عشقها أهلها، شربت من دمائهم وضحوا في سبيلها بأرواحهم، وسيعيشون ما بقي من أحلامهم على أمل العودة لأحضانها ..