أنس إبراهيم
عندما يفقد الإنسان وعيه المعرفي والثقافي الذي اكتسبه من خلال تجاربه المتلاحقة الذي يشكل مجمل سلوكياته الصادرة عنه، وكذلك عندما يفقد العرف المجتمعي السائد في بيئته ويصعب عليه الاستجابة لجميع المؤثرات الخارجية، تسمى حالته تلك بالغيبوبة؛ بمعنى أنَّه دخل في حالة شلل حسي وإدراكي عميق وتام عن المحيط التفاعلي من حوله.
هذا في حالة الفرد، فهل يعقل أن يدخل المجتمع برمته في غيبوبة تامة عمَّا يجري حوله؟ بالتأكيد لا، فلا يعقل أن يكون مجتمعاً بأكمله في تلك الحالة، لكن قد تصيب المجتمع حالة من الذهول وتبلد الإحساس والسبات المستديم وهو في حالة الاستيقاظ دون أن يدرك مفردات الواقع من حوله وكيفية الاستجابة الصحيحة لها.
وفيما أذكر أثناء معركة فكِّ الحصار الأول عن مدينة حلب، كنَّا نراقب نحن المحاصرين عن كثب عمليات جيش الفتح العسكرية التي وزَّعها على عدة مراحل، وبالتحديد عند انتهاء المرحلة الثالثة التي أفضت إلى كسر الطوق العسكري الاستراتيجي المحكم لقوات النظام، وبدء الإعلان عن المرحلة الرابعة رسمياً عبر متحدثه العسكري والتي مفادها: ” مرحلة تحرير حلب بالكامل”.
لكن لم يلبث تصريح الناطق العسكري باسم جيش الفتح أبو يوسف المهاجر سابقاً برهة من الزمن حتى أتاه الرد سريعاً من مجلس الأمن على لسان مندوبة أمريكا لدى الأمم المتحدة “سمانثا باور” بتاريخ 8 أغسطس 2016م بأنَّ: “حسم معركة حلب لن يكون سريعاً”.
لم يلقَ هذا التصريح تلك الأهمية من قبل المجتمع والقادة الميدانيين أي اعتبار على حدّ سواء؛ إذ إنَّهم يعتقدون بأنَّ كلام السياسيين لا يخص شؤونهم اليومية أو تفاصيل إدارة حياتهم السياسية والمدنية بل والعقائدية، وربَّما يؤولون حديث أي مسؤول غربي بحديث المماطلات الدبلوماسية لعلاقة تلك الدول فيما بينها أو علاقتها بالشرق الأوسط “الجديد”.
والآن وبعد سقوط حلب ودفع فاتورة باهظة الثمن في الأجساد والأموال والدماء البريئة دون غيرها لإدراك ما لم يكن إدراكه عقلياً في حينه، يعتبر هذا التصريح لشخصية مسؤولة من التصريحات التي تحمل دلالات سياسية مهمة من شأنها أن تغيّر خريطة أهداف المؤسسات الثورية والحركات العسكرية والتنظيمات والجماعات الحزبية حسب نسبة غيابها عن الوعي الناتج عن التقوقع على نفسها، والتكتل على نجاح مصالحها ومشاريعها بدءاً من الراتب الشهري للفرد وانتهاء بالوصول إلى سدة الحكم.
إنَّ إدراك أبعاد ما يدلي به ساسة العالم تجاه قضايانا وبلادنا وثورتنا بشكل مباشر يستلزم منَّا تغيير الاستراتيجية التي يُعْملُ بها عسكرياً وسياسياً فيما بين الفرقاء الثوريين والعسكريين، وفيما يخص علاقاتهم أيضاً مع الدول الإقليمية.
وتكاد الساحة الثورة لا تخلو كلَّ يوم من تصريح جديد إزاء تسارع الأحداث وتطورها، منها ما صُرَّح به مؤخراً قائد القوات المركزية الأميركية الوسطى “جوزف فوتيل”: “إنَّ قواته ستبقى طويلاً في سوريا لضمان الأمن والاستقرار ومساعدة السوريين على الانتقال السلمي للسلطة”.
وكشف في تصريح سابق: “أنَّ الأمر يحتاج لبقاء قوات أميركية تقليدية، ولا يعني بالضرورة مغادرة سوريا بعد القضاء على داعش”.
وتأتي هذه التصريحات إثر صدور المنظور الثالث من (خطة سلام لأجل سوريا 3) في شباط/فبراير 2017 من قبل “مؤسسة راند” والتي تضم المؤلفين (جيمس دوبّنز، فيليب غوردون، جيفيري مارتيني)، حيث تشمل هذه الخطة مناطق السيطرة واللامركزية والإدارة الدولية.
حيث ارتأوا في الخطة الثانية مسبقاً في حزيران/يونيو 2016 “أنَّ اللامركزية أصلح نموذج للحكم في سوريا”
وأمَّا في هذه الخطة وبعد مؤتمر الأستانة الذي رعته “روسيا وإيران وتركيا” فقد اعتبروا أنَّ الاتفاق الثلاثي سيعزز الآفاق لوقف إطلاق النار على أساس وطني متفق عليه وهو ما سيفرز مناطق سيطرة تدعمها قوى خارجية.
واعتبروا أنَّ تعزيز ذلك يتمُّ عبر التركيز على الحل الواقعي الذي يمكن تحقيقه عبر: “الوصول إلى دولة لامركزية في سوريا على أساس المناطق المعتمدة والمتفق عليها من قبل الشركاء الخارجيين”.
إذاً نحن أمام جملة من التحديات القديمة الجديدة، فهل سنتعامل معها في نفس الأدوات والعقلية التي كنَّا فيها مغيبين عن الواقع؟ أم أنَّ تصريحات الساسة الغربيين ستولّد فينا ذهنية جديدة لاتخاذ الإجراءات اللازمة ولا سيما أنَّه لم يتبقَ لنا من الكعكة سوى نتفة صغيرة ستسحب من فمنا شئنا أم أبينا إذا أخفقنا في دراسة أوراق المرحلة الجديدة بعد زوال الدولة الإسلامية؟