ما كان يبدو بالأمس أبسط الأمور وأكثرها رتابة، أصبح اليوم رفاهية نتطلع إليها بحرقة، فما كان بين أيدينا أصبح الآن في قائمة أحلامنا وتمنياتنا، وما كنَّا نحصل عليه بسهولة ويسر أصبحنا ندفع ثمنه باهظا من قلوبنا ونتحسر عليه بين الحين والآخر.
بالأمس البعيد كانت أعيادنا بنكهة السكر ورائحة القهوة، ومع ذلك لم نكن نستشعر تلك اللذة كما نفتقدها اليوم، وكانت جَمعة الأهل ما يصبغ أعيادنا بلون الفرح، وما عرفنا ذلك إلا عندما اختبرنا الغربة واجتمعنا في غرفة دردشة على الجوال بدل من بيت العائلة الحنون.
حتى الوطن الذي كنَّا ننتمي إليه لم ندرك يوما أنَّنا سنصبح غرباء فيه وغرباء عنه وسنصبح لاجئين بدل من مواطنين، وسيصبح ابن البلد غريبا وفي أحسن الأحوال نازحا!!
صفات لم نكن نسمع بها إلا في نشرات الأخبار، فأصبحنا نحن المبتدأ والخبر.
أشياء كثيرة ما عرفنا قيمتها حتى فقدناها، فاليوم أقول في نفسي: كنا غارقين بالنعم، ولكنَّا لم نؤتها حقها، ولم نحفظها بالشكر وندركها كما نفعل اليوم.
أذكر تماما كيف كانت أيامنا قبل هذه الحرب التي عرَّت لنا أنفسنا، وجعلتنا نفكر بتفاصيل كثيرة لم نكن نلقي لها بالا حينما كانت بين أيدينا، تفاصيل نحسبها اليوم من أكثر النعم حلاوة وأطيبها مذاقا، ومع ذلك كنَّا نتجاهلها ونخنقها بالتذمر والشكوى، فأبدل الله علينا أدقَّ الأشياء حتى عرفنا قيمتها.
كثيرة تلك الأمثلة، نقصُّ بعضها لندلل على غيرها، فمن كان يملك غرفة صغيرة يسكن فيها، تستره وعائلته على ضيقها، وكان يرمقها بازدراء متكبرا متأملا قصرا منيفا يضيع بين جدرانه،
أصبح يتحسر على أحجارها وأركانها عندما أبدله الله خيمة من قماش ليعرف كم كان في نعمة ولم يشعر بها.
ومن كان يملك مزرعة من الأشجار المثمرة ويتفكه بثمارها ممَّا لذَّ وطاب ويستظل بظلال أشجارها ولم يكن يؤتها حقها بالصدقة والزكاة ويتحسر دوما على قلة رزقه ومحصوله، أصبح يقلب كفيه وهي خاوية على عروشها بعد أن أوقدت نيران الحرب أشجارها وأكلت ثمارها. فاليوم يمرُّ بالسوق يشتري فاكهته بالقطعة وليته يشعر بلذتها كما كان من قبل.
مع أنَّ كل تلك الأحداث قد كانت في سنن من قبلنا، وكنا نقرأها دون أن نعرف أننا سنصبح يوما ما صلب الموضوع فيها، وسيمر من خلالنا الدولاب فيقلب حياتنا رأسا على عقب.
من كان في صحة وعافية فليشكر الله على عظيم صنيعه ودوام عافيته قبل أن ينقلب إلى مرض وسقم.
ومن كان في بحبوحة من العيش وبركة، فليحمد الله على رزقه، وليكثر من تصدقه.
ومن كان في رضى من الله، فليكثر من الشكر والحمد لتزيد سكينته وتقر عينه كيلا يبدل رضاه بالسخط فيخسر خسرانا مبينا.
أوجز الله لنا هذه المشكلة وأعطانا حلها حينما قال في كتابه العزيز “:لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إنَّ عذابي لشديد “
إذا لا بقاء للنعم مع الكفر، ولا زوال للنعم مع الشكر. والشكر يكون على هيئة صدقة، وأحيانا على هيئة رضى، والسعادة تكمن في أكثر الأشياء بساطة ودواما ولا يحصل ذلك إلا باستبدال الذم والشكوى الدائمين بشكر ورضى واستشعار النعم واستذكارها دوما لكيلا نأسى على ما فاتنا ولا نحزن لفقدان خير ليس لنا فيه تصيب.
والأفضل من ذلك أن نأخذ من تلك السنن والأحداث عبرا ومواعظ وخطوطا نرسم فيها ما بقي من أيامنا فلا نحقرنَّ من المعروف شيئاً، ولا نستصغر ما بين أيدينا من النعم، فلربما سعادتنا كلها بأكثر الأمور بساطة.