أنس إبراهيم
لم تكن الثورة السورية ثورةً عسكريّة في نشأتها للوثوب للسلطة من أجل قلب الحكم، وإنما كانت ثورةً شعبيّة وعفويّة في محطتها الأولى.
انتفض الناس فيها على الظلم الواقع عليهم بشكلٍ غير منظم بهدف التعديل على الدستور الحاكم آنذاك دون المساس أو التطلّع إلى المؤسسات الحكوميّة؛ وذلك لتضخّم حالة عدم الرضا العارمة في المجتمع من استمرار كبح طموحاته في النهضة والتغيير، الأمر الذي جابهه النظام بالعمل العسكري المنظم، واستباقه لإخمادها بالقتل وإدخال الرعب في نفوس الثائرين.
وعندها أدرك الشعب السوري الثائر أن الإصلاح المنتظر من طغمة حاكمة متصدرة بالطائفية، ومستمسكة بزمام الحكم في مفاصل الدولة لم يلقَ إلا المزيد من الإمعان في القتل والنفي والتشريد، مما حدا بالثوار إلى عسكرة الثورة، مع تغيّرٍ جذري في الهدف الرئيس للثورة في وعي المجتمع من التعديل على الدستور إلى التغيير الكامل للدستور الحاكم وزمرته وإسقاطه.
في ظلّ كل هذه التحولات لم تكن ثمة قيادة موحّدة تقود الثورة، وترسم وتخطط لها قناة سيرها، وآليّة توزع الأدوار فيما بين ممثليها، ومع تكتّل أولى الفصائل وتشكيلاتها أخذت تحدد تعيين عدة قيادات مع مشرعيهم للتأصيل الديني لهم، مع تباين شاسع في الآراء ووجهات النظر لكل منها، ولكن كان من المفترض أنه يجمعهم هدف واحد.
وعندما اشتد بأس تلك الفصائل الثوريّة وبدأت تسيطر على تطور المشهد العسكري، نجحت الدول الإقليميّة وأسيادها من المخابرات الغربيّة والأمريكيّة في استمالة هذه الفصائل من خلال إغداق دعمها المتنوع مالاً ومعدات، فيما خلا من مضادات الطيران والأسلحة النوعية، وتمّ بذلك مصادرة قرار الثورة من القوة الضاربة لها على الأرض، تلاه تجميد معظم الجبهات الذي أدى إلى كسر الثوار وانتزاع حلب من أيديهم كنتيجة مرسوم لها لفرض الحل السياسي وإخضاعهم للقبول به.
وأثناء هذا وذاك بدأت تتحوّل الثورة الشعبية إلى دكتاتوريّة فصائليّة عسكريّة، وكثيراً ما كانت تجنح إلى حروب ثورية فيما بينها تبعاً للمصالح والمراجع الفقهية المرابطة على ثغور مختلف الإيديولوجيات المتناحرة
إن الجيش الحر وبقية الفصائل الأخرى بارتباطهم بما يلوي عنقهم وقت الحاجة قد حادوا عن البوصلة الرئيسية للثورة، وذلك بتعويمهم لأهدافها الأساسية، مقابل أهداف الداعمين.
وليس أدلّ على هذا الحال من سقوط حلب بيد النظام السوري، الذي أسفر عما كان يدار في دهاليز تلك الغرف، وما إن قُصِمَ ظهر الثوار في حلب حتى بدأت روسيا بالتلويح إلى إيقاف إطلاق النار في سوريا، وبالفعل جاء تصريح بوتين عن: “توقيع اتفاق بين النظام السوري والمعارضة المسلحة على وقف لإطلاق النار” والذي لم يكتب له النجاح حتى الآن.
إن الجيش الحر بدأ يأخذ المقاومة والممانعة عن الثورة والثوار، مستفرداً بها عن عامة الشعب وطموحاتهم وتطلعاتهم، وحقّهم في بلوغ غايتهم بعد كل هذه التضحيات، بينما هم في الحقيقة يمثلون فصائلهم وتطلعاتهم نحو السؤدد والسلطة على حساب الثورة ودماء الضعفاء الأبرياء، وخير مثال هو هذا التشرذم والتفكّك اللذان دفعنا ثمنهما باهظاً.
إذاً ثمة اختلاف كبير حول توجّه الثورة والجهة التي ستقودها، ولعل المنقذ من كل هذا يكمن في أمرين اثنين:
- ما قاله ابن مبارك وأحمد بن حنبل: ” إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر، فإن الحق معهم”.
- تبني مشروع سياسي واضح يمثل كافة الفصائل العسكرية تمثيلاً ثورياً ضمن كيانٍ واحد توحده الأهداف العليا بعيداً عن تفاصيلها.
ليس السَّوْء كل السَّوْء في المفاوضات نفسها، وإنّما في طريقة إخضاعنا لها عبر العلاقات الدبلوماسية التي يسْتبهم قيادات الفصائل مع ممثليهم إدراكها من قبل الدول الداعمة للفصائل، فارتهان الفصائل سهّل سقوط حلب وأضعف موقف الثوار في امتلاك أي ورقة ضغط نفوذ لها على الأرض في المفاوضات السياسية، فأصبح حالهم كالمثل القائل:” مكرهاً أخاك لا بطل”.