جاد الغيث |
ماتزال جدران بيته بيضاء مثل قلبه، وغرفة (الصالون) خاوية تمامًا يزين أحد جدرانها لوحة صوفية لبيت ريفي قديم، لتلك اللوحة ذكرى خاصة لدى (أبو عمر) الذي فقد بصره دون أن يفقد بصيرته، وإحساسه بمعنى الحياة.
رجل قلبه ممتلئ بالتفاؤل والحنين لأصدقائه الشهداء الذين لم يعد يستطع إحصاءهم من كثرتهم، كانوا حوله دائمًا في بلدته الثائرة (كللي)، واليوم لم يبقَ إلا هو، رحل الجميع وتركوه منتظرًا في قافلة الشهداء التي تبدو بلا نهاية في سورية.
في بيته زوجة تحبه لم تتخلَّ عنه لحظة واحدة، وأربعة أولاد (صبيان، وابنتان).
تتربع (آيات) ابنته الصغرى على عرش قلبه، وتضيء بضحكتها وعناقها الطويل له عتمة عينيه، لقد أبصر وجهها الناعم بكل تفاصيله في أحد أحلامه، إنه يصف ملامحها بدقة كأنه قد رآها واقعًالا حلمًا، ويضمها إلى صدره لينسى كل آلام الثورة وعذاباتها التي بدأت قبل ثماني سنوات.
يومها كان (أبو عمر) على الخط الأمامي في معركة (خان العسل)، ولم يكن يعبأ بالدبابة التي رصدت مكانه، وبينما هو يطلق الرصاص من بندقيته أطلقت الدبابة قذيفتها فأصابته بشظايا في عينيه وفي كل جسمه الذي صار كالمصفاة! وكانت معركته الأخيرة على جبهات القتال بينما تستمر معركته مع الحياة حتى اللحظة.
كان (أبو عمر) يعيش على أمل أن يرى يومًا ما وجوه من يحبهم، لكنه الآن لا يريد أن يعود النور إلى عينيه، وهو لا يسمي ذلك استسلامًا، إنما يقبل عتمة الحياة بكل رضا، فقلبه ممتلئ بالنور، هو فقط لا يريد أن يرى الدمار والخراب وقبور الشهداء ووجوه أطفالهم التي غدت أكثر من أن تعد.
يكتفى (أبو عمر) من الحياة بالأصوات واللمس، إنه يسمع بحس مرهف أنينَ المتألمين، ويسعى لعلاجهم في مركز للعلاج الفيزيائي أنشأه هو بنفسه، يتلمس أطراف أوجاعهم ويحنو عليها بأطراف أصابعه، وهو المتألم والمصاب قبلهم.
يحلو له دائمًا مقاومة الألم بالصبر والرضا، فوجهه دائم التبسم، يطلق ضحكته الصافية بسرعة، كأن الدنيا قد حيزت له بحذافيرها، المساء أجمل أوقاته، إذ يجمعه بأولاده، فتجلس الصغيرتان (آيات، وعائشة) في حضنه و (عمر وإسلام) بجانبه.
تسيل دموع (عمر) صاحب السنوات الثمانية، فهو يسمع القارئ (عبد الباسط عبد الصمد) يتلو آيات قرآنية، فتتجدد أحزانه على رفيقته (جنى) التي استشهدت بقصف طائرة روسية على بيتها، حينها يسري (أبو عمر) عنه باستذكار مفردات جديدة في اللغة الإنكليزية يتنافس على حفظها (عمر، وإسلام).
يستعين (أبو عمر) بإخوته ووالده في شؤون حياته التي يبدو فيها دق مسمار في جدار البيت أمرًا ليس بالسهل، ويعلق ضاحكًا بأنه كثيرًا ما ينسى عتمة عينيه، خاصة حين ينهض صباحًا من فراشه فيصطدم بشيء ما، فيتذكر أنه لا يرى بعينيه لكنه يرى بقلبه.
وكلما سأله (إسلام) ذو السنوات السبع، أبي كيف تراني؟! يشير (أبو عمر) بيده إلى قلبه.
كم من المبصرين عميت قلوبهم عن رؤية الحق وأهله! وكم من المعاندين المؤيدين للظلمة والفاسقين يرون الباطل حقًا، والظلم عدلاً! وكم هي عظيمة تلك الثورة التي أطفأت شظاياها عيني (أبو عمر)، لكنها زادت نور بصيرته.
العمى ليس عمى العيون، إنما تعمى القلوب التي في الصدور.