جاد الغيث |
عقب سيجارة مرمي على الأرض، وبعض النباتات غير مروية، وغبار خفيف لا يُرى بالعين المجردة على الزجاج الأمامي لسيارة السيد صاحب المزرعة!
هذه الأشياء البسيطة كانت سببًا مباشرًا لغضب السيد، حيث يعلو صراخه على الحارس، وتتسخ شتائمه بلسانه البذيء سلفًا!
هذا ما كان يحدث قبل الثورة، ولكن بعد الثورة تغير الحال، فقد هاجر السيد وعائلته إلى السويد، وغدا الحارس المسكين صاحب القرار المكين، فعبر اتصال مباشر من كاميرا الجلاكسي، كان الحديث التالي المليء بالرجاء والدعاء: “السيد: دخيلك يا حسين، المزرعة بأمانتك، حسين: خيو انسرقوا البواب، السيد: مو مشكلة، حسين: احترق العفش بشظية، السيد: فداك بس ما حدا يستولي على المزرعة..”
تغيرت المواقع فتغير الأسلوب، ولأن المال يُغير نفوس الكثيرين، وحسب القول الدارج (غاب القط، العب يا فار) وكما قالوا في المثل (القرعة بتتباها بشعر بنت خالتها) وبناء على ما سبق صار الحارس السيد اللبق، يخاطب صاحب المزرعة بلطف ويطلب منه ما يفوق راتبه السابق بثلاثة أضعاف، وذلك مقابل حمايته للمزرعة التي كان يعمل فيها حارسًا، فغدا بين ليلة وضحاها الآمر الناهي فيها!
سكن الحارس في الطابق العلوي، ومنح الطابق الأرضي لابن عمه النازح البائس من ضيعته التي استولى عليها نظام الأسد.
وبعد وقت قصير كبرت عقدة (الأنا) في نفس صاحبنا، وصار يُعامل ابن عمه كما كان يُعامله صاحب المزرعة (السيد) شتائم وصراخ، وممنوع ومسموح، لا ترمي أعقاب السجائر بين الحشائش، لا تُسرف في استخدام الماء، أولادك يكسرون أغصان الشجر، وزوجتك شوهت لون البلاط بمساحيق التنظيف …!!
تعليمات وتوبيخات، جعلت ابن العم يرحل في ليلة خالية من ضوء القمر.
مرَّ شهران والحارس ملك زمانه، ولكن دوام الحال من المحال، ولو دامت لغيرك لما وصلت إليك، فصيل عسكري طرق الباب هذه المرة في وضح النهار، أنذر الحارس بإخلاء المكان خلال أيام …!!
بكاء زوجة الحارس أثار قلب القائد الفارس، فأعاد العائلة الصغيرة إلى مكانها الأصلي، إلى غرفتين صغيرتين في مدخل المزرعة الفخمة، وهنا عادت الأنا المتضخمة لدى الحارس إلى أقل من حجمها الطبيعي، فلم يعد يجرؤ على الاتصال بصاحب المزرعة، ولم يعد له حس يعلو في البيت إلا على زوجته المسكينة.
مضت شهور جديدة، والقصف صار على أشده، وبما أن المزرعة الفخمة صارت مقرًا، فإن القصف قادم إليها لا مفر!!
وفي ليلة من ليالي الشتاء، لا فيها دفء ولا ضياء، نزل الصاروخ اللعين، وهدم القصر المكين، وطمر الحارس بين الأنقاض إلى أن أخرجوه بسلام مع بعض الأغراض، فرحل إلى قرية بعيدة، وبدأ هناك حياة جديدة، عاد حارسًا في معمل للبلاط، وفي قلبه شيء من حزن واغتباط، فالمزرعة الفخمة عادت إلى حضن النظام بعد أن استولى على المنطقة، ولم يبقَ من حجر يشهد على الحادثة، سوى حجرة منقوشة بحروف مكتوبة (الملك لله) ولا إله سواه .