دعاء بيطار |
لن تكون الأول في وصب الدنيا وغمها، ولن تكون الأخير، فقد خُلقت لأيام معدودات وستمضي كما مضى الملايين من الناس في حفرة ضيقة سيضعونك متعجلين إكرامًا لإنسانيتك.. سيهرولون إلى نهايتك وأنت لا تملك من أمرك شيئًا، سينتهي كل شيء في لحظة، كل ما تتألم منه سيتلاشى في لحظة ستصبح ذكرى وستمضي بعدك الأيام سراعًا لتُنسيهم ألم فراقك..
هناك في أول لحظة سيفتح تاريخك وسترى ذلك السجل أمامك كما الكتاب الذي تستذكره لتعرف نتيجة امتحانك.. تذكر يوم كذا؟ يوم أن مررت على آية كذا، ماذا عملت بها؟ تذكر يوم ذكَّرك فلان بي ماذا فعلت؟ تذكر يوم أن رحل أمامك من تحب؟ تذكر يوم أن لغوت وأفسدت وخنت الأمانة تذكر يوم كذا؟
يا إلهي قد أصبحت الذاكرة محشورة وما أقرأه كأنه حدث الآن! كيف للزمن الذي مضى عليَّ أن يكون متقلصًا إلى هذا الحد لأتذكر كل شيء الآن؟! أم أنني لبثت يومًا في هذه الدنيا! يا لله ما أقصر العمر! كيف مضى كل شيء وأصبحت هنا الآن؟!
لو عدت إلى الحياة وأُعطِيت لي فرصة ثانية ما فرطت بها لحظة.. كل ما مررت به من شدائد كانت لعبًا بل كانت عطايا لأكتسب من الصبر عليها الجبال الراسيات من الحسنات والذخيرة الحية لهذه اللحظة..
والله لو امتلكت الدنيا لأنفقتها فداءً لهذه اللحظة، ولكن أنَّى لي الوفاء بوعدي؟! تجتر اليأس وتعود للحظة وأنت تنظر في السواد المحيط بك من كل اتجاه، ها قد أتت الصلاة، ها قد أتت الصدقات، ها قد أتى دعاء من أحبني في الله، ها قد بدأ النعيم وفُتحت أمام ناظريك الجنة ليصلك ريحها وترى أفياءها وظلالها والناس فيها فرحون، ها قد سلم عليك الراحلون ممَّن كنت تشتاق إليهم، قد أتى القرآن ليجلس من الجنة معك فتخيل أنك الآن تسمع وترى وتتمتع في عالم مختلف تمامًا لن تتمنى الرجوع ولا للحظة إلى هذا الكدر والهم، بل ستدعو لمن تحب أن يلحق بك سريعًا، فهنا لا ألم ولا خوف ولا عداوات ولا فراق.
لن تتمنى العودة ولا حتى ليوم واحد، فتجهز للرحيل واكتب في هذا الكتاب صفحات تليق بهذا المقام، فو الله ما هي إلا أيام وتكون تحت الأرض وحيدًا مهما جمعت من الدنيا ونلت منها.