الــهـيـثـم نـجـيـب |
عدتُ تلك الليلة إلى منزلي بعد أن أشارت عقارب الساعة إلى الثانية بعد منتصف الليل، دخلته بعد أن احتلّ الظلام كل زاوية وركنٍ فيه بعد دحر آخر شعاعٍ للشمس قبل 9 ساعات من الآن.
رَمَقتني بملامحَ غضبٍ لم تبذل جهداً في إخفائها، نظرات جعلتني ألجأ إليها فور دخولي البيت منذ تلك الليلة.
لم أكن متأكداً تماماً من تلك النظرات، أكانت نظرات غضبٍ أم غيرة ودلال لعدم الالتفات إليها فضلاً عن عودتي في هذه الساعة من الليل، اقتربت بحذرٍ وهمست في أذنها وقد تركت مسافة أمان بيننا: “لم أعتد هروب الابتسامة من صحن وجهك الأبيض الفاتن، على الأقل حين استقبالي؛ فكلانا، ولسنوات، نميد طرباً كلما التقينا وإن كان الزمن بين اللقاءين لا يخرج من خانة الدقائق.”
ردّت وقد خلعت نظراتها القديمة وألبست وجهها ملامح غنج ودلال مكانها: “لكني لم أعتد منكَ هذا الغياب، كنتَ تأتيني بلهفةٍ في كل أحيانك وحالاتك، حلوها ومرّها، يسرها وعسرها، أمّا الآن فقد هجرتني لشهرين كاملين وأنت تعلم أكثر مني أنه ما من أحد قادر على الإبحار بك في قارات العالم سواي، ولن تجد فرصة لإيجاد حلولٍ لما تمرّ به في غير حضني وخارج ذراعيّ.”
علاقتي بها بدأت قبل أكثر من عشر سنوات تقريباً؛ كنت في الرابعة عشر من عمري وكنت أحسب حبي لها، حينها، ضرباً من ضروب المراهقة التي ستتلاشى مع الأيام، وشيئاً عابراً يمر عادةً بحياة كل من كان في سنّي في تلك الفترة.
كان هذا الإحساس يولّد خوفاً داخلي لا أدري كيف أتعامل معه، إلّا أن الجميل في الأمر أني كنت مخطئاً، ويا لفرحتي حين علمت بمجانبتي الصواب!
بل إن الأجمل من ذلك أن علاقتنا استمرت وازدادت قوةً ومتانةً طوال تلك السنين وفق عقدٍ لم يكتبه أيّ منا؛ مفاده أن أرتمي بأحضانها مهما كان حالي ومهما ساء ظرفي لأترك بين كتفيها هموماً أهدتني إياها الحياة فصعب عليّ حملها.
عاودت النظر إليها من جديد، تأمّلت في لحظةٍ الحُسنَ الذي اتخذ من عينيها سكناً ومأوىً وكأنّه ما خُلقَ إلا لها، كان إحساسٌ يراودني بأنها تفتح روحها لي لأبث من كلماتي فيها، أمسكتها من كتفيها وأنا أحاول منع ارتجاف يداي، وغرقت في صدرها شاكياً بعض الذي أحسّه وأعيشه في هذه الفترة.
شكوت لها حتى بدأت أشعر بأنفاسها تسابق شهقاتي التي أطلقتها خلال حوارنا الذي بدأ قبل ساعتين وأنا أسيل آخر ما بقي في وجنتيّ من دمع بين يديها. تركتُها بهدوءٍ تام تتخذ لجسدها الجميل متّكأ ومستراحاً بين أخواتها ودخلت غرفتي راغباً في قسطٍ من النوم والراحة، ومتمنياً صباحاً أفضل من ذاك الذي بدأت به يومي هذا يداعبني حين أصحو ويبث في نفسي أملاً أتقوّى به فيما تبقى من معركة الحياة التي اشتدّت قسوتها عليّ قبل عام ونصف من هذه الليلة. جددت العهد الذي كان بيننا سابقاً واتخذت قراراً بأن ألزم نفسي ببثّ ما أحسّ به بين يديها حتى الممات، وإن لم تتجاوز كلماتي سطراً أو اثنين.
لم يكن حواري هذا مع غانيةٍ من الغانيات يا سادة، ولم يكن (فضفضةً) بين يدي زوجة أو أمّ حنون؛ بل كان مع ورقةٍ بيضاء من أوراقي الكثيرة التي تملأ وجه مكتبي في غالب الأحيان؛ ورقة خالط بياض بشرتها لون كريمي بسيط كنت قد اعتدت النظر إليه عندما أستحضر خاطرةً أو ذكرى من زنازين الذاكرة المعتمة عندما أدوّن مذكراتي، ثم أكتب ما استحضرت على أختها مخافة أن تحني ظهرها إن ألقيتُ عليها همومي أو أشهدتها على حالاتي.
هي قصة بدأت بالإعجاب منذ الطفولة لتتحوّل بعده لما يلي الإعجاب من أحاسيس وعواطف يسعى كلٌ منّا لاكتسابها عبر صورٍ مختلفة، فمنّا من تهديه الحياة جمالها وفرحها، ومنّا من تحني الحياة ظهره؛ إلّا أننا مجبرون على المسير، ومتابعة المسير حتّى النهاية.