بقلم أحمد ماهر
لقد دار الكثير من اللغط حول اللقاء الذي جرى منذ فترة طويلة في العاصمة النمساويّة فيينا بين عدد من الشخصيات السوريّة؛ لوضع تصوّر أو رؤية حول محدّدات الدّستور السوريّ المستقبلي، فقد صدرت العديد من البيانات والتصريحات المتباينة والمتضاربة حول هذا اللقاء، ففي تصريح لإحدى المشاركات في اللقاء، والتي انسحبت منه لاحقاً الدكتورة سميرة مبيّض: (تمت دعوتي إلى مؤتمر تشاوري حول بعض قضايا الدّستور السوريّ في فيينا، مبادرة اللقاء بحدّ ذاتها والتي وافقت عليها لا تحمل أي لغط فهي عبارة عن تشاورات وتوصيات حول مستقبل الدّستور السوريّ.
لكن اللغط يكمن بانتماءات المشاركين التي لم يتمّ إعلامنا بها سابقاً، حيث يُعتبر اللقاء تسويقاً وتعويماً لحزب PYD، وبناءً على رؤيتي هذه وبعد الجريمة ضدّ الإنسانيّة التي قام بها هذا الحزب ضدّ السوريين في منطقة عفرين، فقد انسحبتُ من هذا اللقاء ورفضت التوقيع على أي عقد اجتماعي أو وثيقة بالمشاركة مع من يحملون هذا التوجه الإرهابي الذي لا يختلف بالفكر والمضمون عن توجّه داعش والنظام، فالسلام الحقيقي يبدأ بتفكيك هذا الفكر المتطرّف تحت كلّ مسمّياته).
أمّا وفي تصريح آخر للأستاذ فؤاد إيليّا أحد المدعوّين والمشاركين ضمن اللقاء، قال: (بأنّ هذا اللقاء كان أقرب لما يمكن أن يسمّى ورشة عمل منه إلى مؤتمر يجمع عدد من الشخصيّات السوريّة المتنوّعة من ناحية انتمائها الديني والمذهبي والإثني، وإنّ هذا اللقاء قد جاء في إطار ما يمكن تسميته المجتمع المدنيّ، وإنّ هناك الكثير من الأسماء التي تمّ تداولها في الإعلام والمواقع الإلكترونيّة على أنّها مدعوة للقاء لم توجّه لها أيّ دعوة بالأصل، وإنّ المدعوّين هم عدد من الشخصيّات القانونيّة والسياسيّة والمستقلّين يمثلون طيفاً واسعاً من المجتمع السوري بتنوعاته المختلفة، وإنّهم لم يناقشوا أي بند من بنود الدّستور بل ناقشوا بعض الأفكار حول دستور سوريّ مستقبلي، وهذه الأفكار يجب أن تصاغ من قبل اختصاصيين، و لسنا أصحاب الحقّ في صياغة أيّ بند من بنود الدّستور، وإنّما صياغته تتمّ من قبل لجنة مسمّاة من هيئة تأسيسيّة متوافق عليها، أو من قبل برلمان منتخب شعبيّاً يعين لجنة خبراء لذلك الغرض، وإنَّ مخرجات هذا اللقاء هي ملك لمن قاموا بتنظيمه).
وبعد هذين التصريحين المتباينين لشخصيّتين حضروا هذا اللقاء، يبرز العديد من التساؤلات المهمّة: ما حقيقة ما جرى في لقاء فيينا؟ ومن يقف وراء تنظيم هذا اللقاء وفي هذا التوقيت بالذات؟ ألا يبدو أنّ هذا اللقاء الذي تزامن انعقاده مع مفاوضات جنيف ومن ثمّ توقّفها لتعليق وفد المعارضة مشاركته هو للتشويش عليها؟ وبالتالي هل هذا اللقاء يصبّ في مصلحة الشعب السوريّ والثورة السوريّة؟
لا يمكن لأحد أن يحدّد بالضبط حقيقة ما جرى في هذا اللقاء الغامض بتوقيته وظروف انعقاده، ولكن على ما يبدو أنّ هذا اللقاء كان الهدف منه بلورة فكرة الفدراليّة التي يدعو إليها حزب الاتحاد الديموقراطي ((PYD، والتي أطلقها في مؤتمر عقده منذ فترة في المناطق التي يسيطر عليها بالداخل السوريّ، ونحن نعلم بأنّ هذا الحزب يرتبط تنظيميّاً وأيديولوجيّاً بحزب العمال الكردستاني (PKK)، وهو ذو توجّه يساري بمرجعيّه شيوعيّه، وإنّ من قام بتنظيم هذا اللقاء هما (فيلي لانكتالا و ليو غابرييل) تحت غطاء من منظّمة المبادرة العالميّة للسّلام، وهما شخصيّتان نمساويّتان يساريّتان معروفتان بفكرهما الشيوعيّ، ومعروفتان أيضاً باقتناعهما بنظرية المؤامرة الكونيّة التي تحاك ضدّ سوريّة، تدعمهم إيران مادّيّاً، ويتبعون سياسيّاً وفكريّاً لموسكو ومقرّبين من الأحزاب والشخصيات اليساريّة في أوروبا وأمريكا اللاتينيّة والذين دعموا اللقاء مادّيّاً.
إضافةً إلى أنّ هذا اللقاء قد جرى في الوقت الذي علّق وفد المعارضة السوريّة مشاركته في مفاوضات جنيف، فبدا مشوّشاً عليه، وبدت مناقشة أمر الدّستور وإن كانت بالحدّ الأدنى ترفاً أمام حملة القصف الشديدة لأحياء حلب المحرّرة، وكأنّ مشكلة السوريّين الآن باتت هي الدّستور، وليس نظام حكم مستبد مجرم وقاتل لم يترك خلال خمس سنوات مضت من عمر الثورة أيّ وسيلة أو آلة من آلات القتل إلّا وقد استخدمها لقمع السوريين وثورتهم، فالشعب لم يقم أساساً بثورته لأنّه لا يعجبه الدّستور أو يعترض عليه، وإنّما ثار على سلطة حاكمة استخدمت الصلاحيّات التي يمنحها هذا الدّستور لها، فأساءت استخدامها ووظّفتها للحدّ من الحرّيّات ونشر الفساد والظلم، فالقضيّة الآن ليست قضية دستور بحدّ ذاتها رغم أهميتها لمرحلة لاحقة، وإنّما قضيّة نظام مستبد أوغل في دماء السوريّين، وأعلن الحرب على شعبه منذ الأيّام الأولى للثورة، وبالتالي لا يبدو أنّ هذا اللقاء يصبّ في مصلحة السوريّين وثورتهم.