لأنَّ الثورة التي لا تقرر الانتهاء سرعان ما تقتل الوطن ثم تنتحر،
لا يوجد شيء يمكن بناؤه بهذه الحالة من الفوضى المتراكمة والمتزايدة، وغير المنضبطة، شديدة التحرك والتفلت وإعادة التشكل، تلك الأداة التي لا تستقر على حال، والجميع، أقصد كل طرف على حدى يدعي امتلاكها كاملة بحسب تاريخه الثوري العظيم.
الثورات أمر مهم، لا شكَّ في ذلك، إنَّها أداة الإصلاح والتغيير، لكنَّها تفعل فعلتها في الهدم، .. في قلب الموازين وحالة الاستقرار على المستبدين، تحاول الوصول إلى أرضية تمكّن الثائرين من تحقيق أهدافهم، .. إنَّها لا تخنع، ولا تستسلم، ولا تنطفئ، لكنَّها لا تبقى دائماً مشتعلة بنفس الجذوة المحرقة، عندها ستهدم كل شيء، لأنَّ الثورة في أصلها تنشد الكمال، والكمال غير متحقق، لذلك لا بدّ لها أن تقف قليلاً لتسمح للممكن بالظهور، والذي يُبنى عليه فيما بعد، من أجل السعي تجاه الكمال المنشود ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
نحتاج الكثير من التعقل والحذر في تعاملنا مع هذه الأداة التي تحاول امتلاكنا لتكون هي الهدف والمصير والغاية، إنَّها ليست كذلك، إنَّها لا تعدو أسلوباً في التغيير قمنا به مكرهين بعد أن أعجزتنا كل الأساليب الأخرى الأقل كلفة، لقد علمنا أن كلفتها ستكون عالية، وكنا مستعدين لدفع الثمن من أجل وطننا الذي نحب، من أجل أن نراه حراً كريماً مترعاً بقيم العدالة والمساواة، والمحاسبة، لا من أن أجل أن نقتل أنفسنا والوطن والمجرمين على السواء ثأراً للماضي الذي كان قاتماً وظالماً وقاسياً وأسوداً وشديد العذاب والألم.
لأنَّ الوطن لا يمكن تجاوزه، لأنَّه الدافع الحقيقي من أجل كل ما نعمل، الوطن المتمثل ليس برقعة أرض فحسب، بل بالتاريخ والتراث والثقافة والأديان والمستقبل، .. أطفالنا الذين يكبرون أمام أعيننا بلا أرض وبلا انتماء، وبلا هوية، أو أي شيء يثبت أنَّ لهم وطنٌ يجب أن يدافعوا عنه، ويعملوا على استعادته
الذكريات وحدها لا تكفي، إنَّها تأفل مع الأيام، فجاذبيّة الأوطان الجديدة قادرة على أن تسلبنا كلَّ ما عشنا من أجله وقمنا بثورتنا من أجله، قادرة على أن تجعل التضحيات بلا قيمة، والثورة لم تكن من أجل ذلك أبدا، لذلك علينا أن نكون أكثر حزماً في قبول الممكن، لنحافظ على الغاية من ثورتنا، بدلاً من أن تبتلع الثورة كل شيء، ونبقى فقط لسنوات قليلة نقف على أطلال الوطن نبكيه، ونتابع رحيلنا، إلى أن تموت في داخلنا كل ذكرى ممكنة ونصير غرباء على الحقيقة، غرباء عن أنفسنا وعن الوطن وعن غاية الثورة.
ولا مكان للمجرمين على هذه الأرض
المدير العام | أحمد وديع العبسي