منذ بداية 2019 تشهد العملة السورية حالة ملحوظة من عدم الاستقرار، إذ تواصل الليرة تراجعها أمام الدولار الأمريكي، وفي الوقت الذي تتزايد فيه الأحاديث حول إعادة الإعمار في سوريا، وربما هذا أكثر إيجابية، لا يبدو أن الاقتصاد سيستفيد من حالة الاستقرار المرتقبة، وربما يعد هبوط الليرة أبرز مؤشر على ذلك، لكن لماذا تتجاهل الليرة مكاسب نظام الأسد؟
ماذا يحدث لليرة السورية؟
خلال عام 2018، ووفق الأرقام المتوفرة على موقع «الليرة اليوم»، فقد شهدت العملة السورية حالة من الاستقرار في معظم العام، وذلك بين 440 إلى 495 ليرة للدولار، ولكن مع نهاية العام وبداية 2019 تجاوز السعر مستوى 500 ليرة للدولار، حتى وصلت إلى نحو 535 ليرة مع بداية فبراير (شباط) الجاري، بينما ما زال سعر الدولار مثبتًا في السوق الرسمية عند 435 ليرة، وذلك بفارق نحو 100 ليرة عن السوق السوداء -شبه الرسمية- وهو الأمر الذي آثار الكثير من التساؤلات حول أسباب هذا الهبوط، في ظل الحديث عن مواصلة نظام الأسد السيطرة على العديد من المناطق في سوريا.
منذ أن اندلعت الانتفاضة ضد الأسد في عام 2011، واصلت الليرة خسائرها خلال السنوات التالية، فبعد أن كان سعر صرف العملة السورية نحو 45 ليرة للدولار قبل الثورة، فقد سجل نحو 394 ليرة في 2015، كما هو موضح بالرسم السابق، ثم 643 ليرة في 2016، لكن السعر تحسن قليلًا في عامي 2017 و2018، قبل أن تتهاوى من جديد في عام 2019، ويمكن القول إن هذا التراجع ليس بسبب الحرب، ولكن ربما بسبب ملامح انتهاء الحرب.
في الوضع الحالي ليس التعبير الصحيح هو أن الليرة تتجاهل انتصارات الأسد، ولكن الواقع يشير إلى أن السوق تحتاج لمزيد من الدولارات، بينما انتصارات الأسد لا تجلب الدولارات، فلا زالت الصادرات محدودة والسياحة غائبة، ولا يوجد احتياطي نقدي أجنبي بالبلاد، بالإضافة إلى أن هناك مخاوف من فرض عقوبات أمريكية على النظام السوري.
على الجانب الآخر، فإن استقرار سوريا يعني مزيدًا من الواردات، أي المزيد من الطلب على الدولار، وهو عامل في غاية الأهمية لا يمكن إهماله في حركة سعر الصرف، وبحسب صحيفة «الوطن» التابعة للنظام السوري، فإن تراجع الليرة ناتج من عمليات تحفيز الطلب في السوق، بجميع أشكاله، التجاري لتمويل الوردات، وكذلك تحول المواطنين إلى ادخار الدولار مجددًا، خوفًا من خسارة مدخراتهم بالليرة السورية.
بينما عزت الصحيفة الارتفاع السريع في سعر الدولار إلى المضاربة في سوق الصرف، إذ نقلت عن محمد السواح رئيس اتحاد المصدرين، بأن نشاط الحركة عبر منفذ نصيب، والذي يعد أحد مصادر النقد الأجنبي سيعيد التوازن إلى سعر الصرف قريبًا.
المركزي السوري يتحرك لإنقاذ الليرة
من ناحية أخرى حمل البعض القطاع المصرفي مسؤولية هذا النشاط في السوق السوداء، إذ إن البنوك السورية لا تقبل الودائع بالشكل المطلوب، بحسب مراقبين، وخاصة خلال الفترة الأخيرة، وبالتالي فإن الكثير من المدخرات -بالليرة السورية- تتجه إلى سوق الصرف السوداء في ظل حركة السعر الملحوظة، بالإضافة إلى أن البنوك لا تمول المستوردين تمويلًا كاملًا، وهو ما يجعل المستوردين يلجؤون إلى السوق السوداء؛ مما ينعش الطلب على الدولار.
هذا الأمر دفع المصرف المركزي السوري مؤخرًا إلى تحرك جديد من نوعه، ولأول مرة في تاريخه، وذلك بإصدار شهادات إيداع بالليرة السورية بقيمة اسمية قدرها 100 مليون ليرة، وذلك بسعر فائدة 4.5%، وسيتم على أساسه احتساب القيمة بعد الخصم وبأجل لمدة عام، من تاريخ التسوية المحدد بتاريخ 21 فبراير 2019، والحد الأدنى لعدد الشهادات المسموح الاكتتاب بها للجهة المؤهلة الواحدة خمس شهادات، والحد الأقصى بما لا يتجاوز 10% من حجم السيولة لكل مصرف.هذا التحرك يأتي بهدف جمع جزء من السيولة الموجودة في السوق، والتي توجه للمضاربة بالدولار، لكن حركة السعر السريعة قد تهدد بفشل هذه الخطوة، خاصة أن سعر الفائدة نحو 4.5%، فقط بينما سعر الدولار ارتفع في الفترة الأخيرة بنسبة وصلت إلى 10%، وإن كان مدى الإقبال على هذه الشهادات هو الذي سيحدد نجاح هذه الخطوة في تهدئة السوق.
وبحسب محمد زين الدين، مدير مديرية الدين العام والأوراق المالية في المصرف المركزي السوري، فإن هدف إصدار شهادات الإيداع هو إدارة السيولة المحلية، للوصول إلى استقرار المستوى العام للأسعار، كما أنها خطوة جديدة لاستقطاب المزيد من الودائع للقطاع المصرفي.
يشار إلى أن المصرف المركزي كان قد خفض مؤخرًا سعر الفائدة على الودائع من 12% إلى 8.7%، بالإضافة إلى تحديد سقف الودائع بـ25 مليونًا في البنوك الحكومية، و5 ملايين في البنوك الخاصة، بينما لا يوجد إجراءات واضحة لتنظيم عملية الاقتراض من البنوك، وهو ما جعل البنوك ترفض الودائع والإقراض كذلك، وهي الأسباب التي ساهمت مساهمة مباشرة في انخفاض الليرة السورية.
لماذا لم يحقق الأسد مكاسب اقتصادية من السيطرة على مزيد من المناطق؟
وبعيدًا عن حركة سعر صرف الليرة والأسباب التي أدت إلى هذه الحركة، من الطبيعي أن نتساءل لماذا لم يحقق الأسد مكاسب اقتصادية من السيطرة على مزيد من المناطق؟ والإجابة يمكن أن تتلخص في أن الأسد ليس وحيدًا في سوريا، فآمال السيطرة تصطدم بالقوى الأجنبية التي أرسلت قوات عسكرية إلى البلاد خلال السنوات الماضية، وهو سبب رئيسي يعرقل الاستفادة الحقيقية للنظام.
فبالرغم من انتصارات الأسد المعلنة إلا أن خريطة الصراع تشير إلى أن الأسد أمام مرحلة أكثر تعقيدًا في سعيه لاستعادة كل شبر من البلاد، حيث توجد قوات أمريكية في مناطق شاسعة من الشرق والشمال الشرقي، بالإضافة إلى تواجد القوات التركية في الشمال الغربي، ناهيك عن أن الجنوب الغربي على الحدود الإسرائيلية والأردنية يواجه الأسد فيه خطر الصراع مع إسرائيل.
ووفق تقديرات مركز جسور للدراسات والأبحاث، الصادرة مطلع فبراير الجاري، فإن نسبة سيطرة النظام السوري على الأرض وصلت إلى 60.3%، بينما فصائل المعارضة السورية تسيطر على 10.3% فقط، فيما تسيطر قوات سوريا الديمقراطية على نحو 27.9%، بينما لا تتجاوز سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» نسبة 1.5%.
على الجانب الآخر، لا يمكن إنكار أن توسع الرقعة التي يسيطر عليها الأسد عززت من سهولة الحركة بين المناطق، وهو بالتالي ما سيكون له أثر اقتصادي إيجابي، وذلك بسبب سهولة حركة البضائع والأفراد في هذه المناطق، فقد قال وزير التجارة الداخلية في حكومة النظام، عبد الله الغربي، في سبتمبر (أيلول) الماضي إن نشاط التجارة الداخلية قفز بنسبة 30% بعد أن استعاد النظام الطرق الرئيسية.
لكن حتى الآن لا زالت معظم الحدود مغلقة، والحدود السورية المفتوحة حاليًا هي مع لبنان، بالإضافة إلى معبر نصيب مع الأردن -هو شريان تجاري حيوي- الذي عاد للعمل مؤخرًا، فيما لا تزال الطرق تخضع لسيطرة نقاط تفتيش متعددة، وتقول الشركات إن الجنود الذين يديرونها يطلبون رشا بشكل اعتيادي.
بينما قالت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل في النظام السوري، ريما القادري، لصحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية: إنه «لا يسعنا القول إننا قد انتصرنا قبل أن نشهد مؤشراتٍ على أن الاقتصاد السوري آخذٌ في التطور من جديد»، وهذا الأمر منطقي إلى حدٍّ كبير، فخلال سنوات الحرب فر ما يقرب من 6 ملايين سوري، ودُمرت نحو ثلث المنازل، وفقًا لتقديرات البنك الدولي، ومن المتوقع أن تتكلف إعادة البناء من 200 إلى 300 مليار دولار.
وفود اقتصادية قد تحسن الأوضاع
وفي مؤشر على حركة اقتصادية قد تحرك الاقتصاد الراكد، زار وفد نيابي أردني دمشق، مؤخرًا، في زيارة تعتبر الأولى من نوعها، بعد الوفد الاقتصادي الذي زار البلاد أيضًا في سبتمبر (أيلول) الماضي للمشاركة في معرض دمشق الدولي، وضم 80 شخصًا يمثلون قطاعات اقتصادية مختلفة، برئاسة رئيس غرفة صناعة عمان، زياد الحمصي.
وفي منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أعيد فتح معبر جابر نصيب الحدودي الرئيسي بين سوريا والأردن، والمغلق منذ نحو ثلاث سنوات، ومن شأن عودة فتح المعابر بين البلدين خفض تكلفة التجارة والنقل البري بين البلدين، إذ بلغ حجم التجارة بين البلدين قبل عام 2011، نحو مليار دولار سنويًّا، بينما تأمل الأردن المشاركة بفاعلية في إعادة إعمار سوريا بما يعود عليها بالمليارات، كما أنها تأمل عودة نحو 700 ألف سوري مسجلين لاجئين بالأردن، منذ نحو سبع سنوات.
وعلى الجانب الآخر، وفي تطور واضح، زار وفد من سوريا دولة الإمارات، وذلك بعد أن أعادت الأخيرة فتح سفارتها في دمشق، حيث أقيم في أبوظبي «ملتقى القطاع الخاص السوري الإماراتي» بمشاركة رجال أعمال سوريين، وذلك في إطار تنمية العلاقة بين البلدية لإقامة استثمارات مشتركة، إذ ضم الوفد رجال أعمال سوريين وممثلين عن جميع الاتحادات وغرف التجارة والزراعة والصناعة والمصدرين، ومثل هذه الوفود قد تحسن الوضع الاقتصادي قليلًا، لكن لا زال الوقت مبكرًا جدًا حتى الآن حول الحديث عن تحسن اقتصادي حقيقي في سوريا.
المصدر | ساسة بوست