الكثير منَّا يكون معانداً تجاه الأفكار التي يؤمن بها، أو تلك التي يعتقدها، أو التي قد توصَّل إليها بعد بحثٍ أو تبناها من خلال التجارب التي مرَّت به في أيَّامه القصيرة التي عاشها، ويصعب عليه تغييرها إذا ما تبين له أنَّها غير صحيحة من خلال النقاشات التي يجريها مع أقرانه.
إنَّ السبب الأساسي في عدم نجاعة الحوارات والنقاشات عمومًا في تغيير وجهات النظر أو الآراء أو القناعات يرجع إلى طبيعة هذه الحوارات في مجتمعاتنا التي تأخذ دائماً شكل المنافسة والربح والخسارة والانتصار والهزيمة.
هذه الطبيعة تجعل عوامل عدّة نفسية وعقلية تتكاتف من أجل عدم الاقتناع بالرأي الجديد مهما كان صواباً، والإصرار على القديم مهما كان مدمراً أحيانًا.
إنَّها تخلق نوعًا من العناد الذي يحاول إثبات الذات والقدرة على المواجهة قبل كلِّ شيء، خاصة عندما يكون الرأي المخالف يصدر عن نظير وليس عن معلم، وما يجرُّ ذلك من الحرص على الغلبة والتفوق وإثبات الأفضلية والخبرة، التي تزداد عندما يعرض النقاش في مجموعات ومنتديات التواصل الاجتماعي، والتي يبدو فيها الحرص على التفوق وعدم الخسارة مضاعفاً مهما وصل النقاش إلى عقم أو سفسطة أو شخصنة، أو انتقل إلى موضوعات جزئية بعيدة عن الموضوع الأصلي.
للخروج من هذه الإشكالية ببساطة علينا أن نعيد صياغة واقع النقاشات، بحيث لا تحمل سمة الفوز والخسارة، بل تحمل سمة التشارك والبحث، للوصول إلى النتيجة قبل أن تكون آراء متضاربة، ولتصبح عبارة عن فرضيات مطروحة من البداية، تسعى للوصول إلى الحقيقة، وليس إثبات صحة وجهة نظر أو رأي، فنحن غالبا لا نتعرض لمناظرات وجودية، لكي نحارب في أي نقاش لإثبات صحة ما ندعيه، ولنعلم أنَّ كثيرًا ممَّا ندَّعيه ونعتقده ربَّما يكون غير خاضع للتجربة الكافية، ونجاح أو فشل شيء معين لمرة أو مرات متعددة ليس دليلاً كافياً على صحة أو عدم صحة هذا الشيء، فقد تكون الظروف هي من لعبت الدور الحاسم في ذلك .
ليست الحقيقة مكونا باتجاه واحد، بل هي غالباً عبارة منطلقات متعددة الاتجاهات، تصيغها الظروف والممكنات، وطبيعة البشر والمجتمعات، ولا يجب أن نفكر دائماً أنَّ الحقائق هي عقائد من الصعب التخلي عنها، لأنَّ العقائد على تنوعها هي أشياء أخرى مختلفة تماماً بعضها يستند لحقائق، وبعضها الآخر لا يستند إلا إلى إيمان الناس بها، وتكون هذه الحقيقة هي الأساس الوحيد الذي تتَّكِل عليه العقيدة في وجودها.
علينا أن نكون أكثر انسجاماً مع أنفسنا ومع الآخرين حينما نتعرض للنقاشات، ونسعى من أجل استدراج الحقائق بصيغ مشتركة ترضي الجميع، فأمام الحقيقة لا يوجد خاسرون.
المدير العام | أحمد وديع العبسي