لقد كانت الفرضية الأساسية التي أقمتُ عليها مقالتي السابقة تتمثل في أنَّ الثورة أداة، وليست وطناً، والإيمان بالأدوات غير مُجدٍ، وربَّما يكون كارثيّاً أحياناً عندما يتحولُ ليكون الهدف الذي يتخندق وراءه الثوار ويضحون بالوطن في سبيله، ثمَّ نخرج جميعاً وقد ضيعنا كلَّ شيء، الثورة والوطن وقدرتنا على الاستمرار، ويبدأ البحث الجاد عن الحلول والخَلاصات الفردية التي تعفينا من هموم الحياة ومشكلات الثورة الكبيرة، وقد أصبحت عبئاً لا يمكن حمله أو تغييره كما يعتقد اليوم كثيرون للأسف من أبناء هذه الثورة، إذ إنَّ الورود التي حملوها من أجل ثورتهم تحولت إلى رصاص ودماء ليسوا معتادين على حملها أو مواجهتها، وهم لم يقوموا بالثورة من أجل ذلك، فعلى من حَرف الثورة عن مسارها أن يتحمَّل وحده هذه التبعات الخطيرة، ويتكلَّف عناء استعادة الوطن.
يتجاهل هؤلاء أنَّ من حَرف الثورة عن مسارها كما يدَّعون لن يهتم مطلقاً باستعادة الوطن، كما يتجاهلون أنَّهم بإصرارهم دائماً على طرح المثاليات غير القابلة للتطبيق يجعلون الهزيمة حلاً مرضياً في سبيل الخلاص، لأنَّ النصر الذي يتخيَّلونه شبيهاً بفتوحات الغابرين، شيء لن يحدث، ولا يريد أحد أن تستمر الحرب بطريقة جنونية، كما يستمرون بتجاهل طبيعة مجتمعاتهم، ويلومونها لأنَّها ليست مجتمعات فاضلة تستطيع أن تتبنَّى أهدافهم وتحارب في سبيلها، ويتجاهلون أخيراً أنَّ جزءًا كبيرًا منهم قد استطاع التخلي عن كلِّ شيء سوى الكلام، وأنَّ الذين يتصدون لمتابعة مسيرة الثورة اليوم ليسوا هم أنفسهم من حمل رايتها في البدايات، وبالتالي لا يحملون القيم نفسها ولا الأفكار والمسببات التي قامت عليها هذه الثورة.
الثورة أداة، والإيمان بقدرة الأدوات هو جزءٌ كبيرٌ من الإيمان بالنصر، هذا ما أردت أن أوضِّحه هنا، ولا يمكن الاستغناء عنه، لكن علينا أن نفرِّق بين الإيمان بالثورة كأداة ناجعة لصنع التغيير وفهم طبيعة تغيّرها أو تطور مسارها، وبين الإيمان بها كهدف ثابت يجب التضحية في سبيله، هذا الإيمان الأخير الذي سأرفضه دائماً؛ لأنَّ الأدوات ليست شيئاً ثابتاً يوصف كمبدأ، وإنَّما تتغير عندما يتغيَّر من يمسك بها وتتغيَّر ظروفهم.
إنَّ فهم واقع الثورة الحالي وحجم تغيُّراتها كفيلٌ بأن يصيغ عناويناً عريضة لحلٍّ قادم على الأقل، قد لا يكون هو الحلّ المشتهى، لكنَّه سيكون حتما خطوة في سبيل ذلك.
المدير العام | أحمد وديع العبسي