ترتكز التربية السليمة على تعليم الأبناء حُسن الخُلق والقيم والمبادئ التي تتماشى مع الدين والعُرف في المجتمع، إضافة إلى ذلك تعليمهم على كيفية تجنب الأفعال السيئة ليصبحوا ناجحين ومتميزين وقادرين على التعامل مع الآخرين، لكن قد يخرج بعضُ الآباء عن تلك القواعد، فمثلًا يكذبون بينما هم أنفسهم ينهون ويعاقبون أبنائهم عليه، فلماذا يكذب الآباء؟!
لكل مجتمع نموذج متعارف عليه من الكذب، ومن أشهر الكذبات الشائعة بين الآباء في مجتمعنا السوري “الكذاب يُكتب على جبينه أنَّه كذّاب” وذلك بهدف تعليم الأولاد الصدق.
وقد يكذب الآباء أيضًا عند طرح الأبناء أسئلة محرجة عليهم إما بسبب الخجل من إعطائهم إجابة صحيحة لا تُناسب أعمارهم، أو عدم امتلاكهم للمعلومات الكافية عنها، لكن للأسف سيكتشف الأبناء لاحقًا الإجابة الصحيحة، إما من الأصدقاء أو أحد المقربين، أو من وسائل التواصل، أو محرك البحث “غوغل”، والسؤال الأكثر استغرابًا بين الأطفال هنا هو:
كيف ومن أين جئت؟!
وأكثر ما يعلق في ذاكرتنا كأبناء هي كذبة “أنا مش موجود” إذا أراد أحد أصدقاء الأب أو أقاربه رؤيته أو مكالمته يقول لأولاده بإخبارهم أنه غير موجود، ويبدأ التساؤل في عقول الأطفال لماذا أبي يكذب؟!
يقول أحد الأبناء البالغين عن والده: “الآن عرفت لماذا كان يتهرب والدي من بعض الأشخاص في بعض الأحيان، فمنهم من كان غليظا لا يحب صحبته، وآخر أتى ربما ليستعيد دينًا قد أتى موعده وأبي لم يتوفر معه المبلغ المطلوب في الوقت المحدد.”
“أيمن” أب لطفلين من مدينة إدلب يذكر في جلسة مع أمه وإخوته: ” مرة طلبت من والدي أن يشتري لي دراجة، لكن بعد أن قبض راتبه فاجأني بقوله أنَّه لا يملك مالًا كافيًا على الرغم من وعوده بشرائها وامتلاكه لبعض النقود، لكني حينها لم أعد أصدقه مطلقًا، الآن وبعد أن أصبحت أبًا أدركت تمامًا دوافع تصرفه، لم أكن أشعر في ذلك الوقت بحجم المسؤولية التي يحملها فالتزاماته وديونه كانت تفوق راتبه بعشرات المرات.”
أما فيما يتعلق بصحة الأولاد وكيفية تعامل الآباء مع صغارهم وقت تناول الأدوية، يكذب معظم الآباء بقولهم: الدواء له طعم حلو، ولم يتبق الكثير للشفاء، وسوف أشتري لك هدية كذا وكذا … “.
ويقول آخر: “كان أبي يؤمن بالعمل، وفخورا كونه يؤمِّن متطلباتنا، ولفترة بات دون عمل، لكنه كان يغادر المنزل صباحًا ويعود مساءً كي لا يلاحظ الجيران أو نشعر نحن أنه بدون عمل، فقد كان يبحث عن عمل، لكنه كان يكذب!”
سمعت رواية من إحدى المقربات لي أنها في بعض الأحيان تدّعي الشبعَ أمام أولادها، بينما في الواقع كانت جائعة، فهي تريد أن يشبع جميع أطفالها قبلها، فأحيانًا يكون الطعام الموجود قليل ولا يكفي للجميع، وقتها عرفت لماذا يكذب الآباء؟!
وأنا أيضًا عندما كبرت علمت أن أبي كان يكذب ليشعرني بالأمان والحب ولكي أتعافى من مرضي ولأتعلم وأشعر بالسعادة.
نشر شخص سوري على صفحته في الفيسبوك كلمات مؤثرة:
أبي يكذب حين يقول:
إنّ الحرب ستنتهي قريبًا!!
وإنَّي سألتقي بأخي الصغير الذي تحول لأشلاء في الجنة!!
وإننا قريبًا سنعود لمنزلنا؟!
وإنَّ أخي الكبير المهاجر لأروبا سيرجع يومًا ما!!
وإنَّ عمي المعتقل سينال حريته!
نعم إنه يكذب حين يقول: إن المستقبل أجمل!!
قد يكذب الآباء لإرضاء أبنائهم؛ وذلك لتجنيبهم خصامًا محتملًا، أو إبعادهم عن خطر الخوف أو حالة نفسية معينة، أو ربما ليأكلوا ويشربوا ويناموا ويدرسوا اعتقادًا منهم أنَّ الكذب لصالح الطفل، ونحن على يقين بأنَّ الكذب بكل أشكاله وألوانه عادة سيئة، وأنَّه لا يحمي الحقيقة بل يؤجلها، ونعلم أنَّ الكذب حرام، وأنَّه آية من آيات المنافق، ففي حديث لرسول الله ” ما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا”. لذلك يجب على الآباء تجنب الكذب قدر المستطاع كيلا يصبح أولادهم مُسيرون بالأكاذيب، وليتمكنوا من مواجهة الحقائق وتمييز الواقع مهما كانت صعبة.